

-
( 3 )
قدمنى أحدهم للحضور - أعتقد أنه كان دكتور الغمراوى . ثم جاء دورى فى الكلام . شاعرا بمدى صغرى ، قلت : "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" ، والإستجابة السريعة من الحضور أعطتنى بعض الشجاعة فى قلبى .
تكلمت لمدة خمس دقائق باللغة العربية ، معتذرا بأنى سأقوم بعد ذلك بالتكلم باللغة الإنجليزية ، شارحا السبب لماذا سأفعل ذلك ، مستشهدا بقصة قصيرة توضح السبب . هذه المقدمة لم تكن بالكثير ، ولكن الغرض منها أن أضم الجزء المعمم من الحضور . ثم بدأت الخطاب باللغة الإنجليزية وكان الدكتور الغمراوى بك يقوم بترجمة الفقرات واحدة تلو الأخرى . كنت أعنى أن أطلع الحضور على النشاطات التى تمت بالهند ، بحيدر آباد ، بخصوص ترجمة القرآن الكريم ، وكيف أن المسلمين الذين لا ينطقون اللغة العربية كانوا فى منتهى السعادة للفكرة ، وذكرت لهم أيضا تأسيس الجامعة العثمانية ، ووصفت لهم صلاة الجمعة بالمسجد الحرام بمكة ، وكيف أن سمو الأمير كان يحضر معنا كل جمعة بالمسجد ، "وبصوت مرتفع علق أحد الحضور قائلا : ياليت كل هذا النشاط حدث بمصر !!!" ... وحينما شعرت أنى قد قلت ما يكفى لبيان الموضوع ، وأنى لم آت من أرض جاهلية ، تكلمت معهم عن مستقبل الإسلام .
المسلمون فى يأس لأنهم مقهورون !!! هذا أمر طبيعى . ولكن هل هناك أى سبب لليأس ؟؟؟ أليس هناك نشابه بين موقفنا الآن وموقف رسول الله صلى الله عليه فى الحديبية ، حينما سأله المسلمون "أين هو النصر الذى وعدنا به ؟؟؟" ... حتى أن سيدنا عمر بن الخطاب علق على الموقف ، ولو أنه تاب بعد ذلك . وبالرغم من أن صلح الحديبية كان فى صورته مخز للمسلمين ، إلا أنه فى الحقيقة وبعلم الله كان فتحا مبينا أعز المسلمين ... (مداخلة : كان عدد المسلمين فى صلح الحديبية فى العام السادس من الهجرة ، أزيد بقليل من ألف مسلم ، وحين فتح مكة فى العام الثامن زاد عدد المسلمين بمن لحق بهم من القبائل عن اثنتى عشرة مسلم) ... وقد تم بعد ذلك غزو مكة وتحطيم الأصنام .
لقرون كثيرة ، نتيجة للحروب ، فهناك حاجز كثيف بين العالم الإسلام والعالم النصرانى ، ولقد تحطم هذا الحاجز الآن ، بالرغم من المرارة التى يشعر بها المسلمون . إنهيار هذا الحاجز ، هو نصر عظيم للإسلام ، ولكن هناك شرط ... وهو شرط قاسى ... وهو أن يظهر المسلمون جميعا قيم الإسلام فيهم ليكونوا قدوة لغيرهم . "أو هل تظنون" .. سألتهم !!! "أن الإسلام انتشر بالسيف ؟؟؟" ... حينما ترجم هذه الفقرة الدكتور الغمراوى ، ارتفعت الأصوات "لا لا لا ... الله لا يرضى بذلك" ... سألتهم "كيف لغير العرب من المسلمين أن يحترموا المسلمين العرب ، خصوصا مسلمى الهند ، كيف ننظر إليهم ... فكروا جيدا فى هذا السؤال !!!" ... وبذلك انتهت كلمتى ليعقب عليه الشيخ "رشيد رضا" ، وقد وافقنى فى كل ما قلته .
وحينما حضر "الشيخ رشيد رضا" فى زيارة للهند ، تزاحم الناس عليه يستقبلوا ذلم العربى القادم من بلاد النبى "يوسف عليه السلام" . وقد ردد كلمات الشيخ محمد عبده " بسلوكنا نحن المسلمين ، فنحن عقبة فى انتشار الإسلام فى الغرب . فهم يرون ديننا من خلال تصرفاتنا البائسة ، ويقيسون الإسلام عليها بالتالى " .
وقف بعد ذلك أحد رجال الأزهر ، وبعاطفة فياضة شكرنى باسم الأزهر الشريف على كل ماقلته . بعد هذا اللقاء ، لم يحدث أى اعتراض جماهيرى لترجمة القرآن الكريم .
انتقلت لهوليوبليس فى شهر رمضان لأكون قريبا حيث يقطن الدكتور الغمراو ، لنكمل المراجعة ، والحمد لله انتهت المراجعة فى هذا الشهر الفضيل .
حضر فؤاد بك للقاهرة من الإسكندرية ، فى أجازة العيد . وتحركنا نحن الثلاثة لحلوان لرؤية الشيخ مصطفى المراغى ، حيث لخص الدكتور الغمراوى لفضيلته ما أنجزناه من عمل . وكتب لى الشيخ المراغى ، كلمات معضدة ودافئة ، أعتز بها أيما أعتزاز ، فقد جاءت من رجل فاضل ، لا يكتب شيئا لا يؤمن به .
وفى لقاء سابق ، قرأ لى الشيخ المراغى ، ما يقول به بعض تلاميذ أبو حنيفة القريبين منه والذين يعتبرونه أستاذا لهم ، بأن ترجمة القرآن الكريم جائزة . وكان فضيلته حريصا على أن يبين لى موقعه العلمى ، وأنه ليس مجرد خصم للرأى الآخر دون تفكير . وفى هذه الزيارة الأخير ، شعرت أنه من واجبى أن أشرح له بأن ترجمتى للكتاب تنقصها شروط مما قال به الأحناف فى موضوع واحد : بأنى لن أظهر النص العربى بجوار الترجمة للغة الإنجليزية . سألنى لما لا ؟؟؟ شرحت له لم لا ، كرجل يعيش فى الغرب ، وأن ذلك لعدة أسباب ... أولا : هذا سيرفع من ثمن النسخة وربما أحجم البعض عن شرائها .. ثانيا : حينما يتصفح المشترى للترجمة الكتاب ويجد به نصا باللغة العربية سيحجم أيضا عن شرائه ، معتبرا أن الموضوع خارج إهتماماته ، خصوصا أن الإسلام فى العهود السابقة قد هوجم بعنف وشوهت معالمه ، خصوصا من أولئكم الذين ترجموا القرآن الكريم ونشروه بين غير المسلمين . حتى لو كانت ترجمة القرآن الكريم غير مشروعة ، ففى ظروفنا هذه يمكن إقرارها حسب نص الآية التالية :::
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ {194}
بمعنى ، أن بعض المحرمات ، كالقتال فى الشهر الحرام ، يباح لظروف ، وهذه الظروف يقدرها العلماء الذين يمكنهم الإستنباط . ويظهر أنى كنت أتكلم بحرارة ، فقد توقفت قليلا لألتقط أنفاسى ، فقال لى فضيلة الشيخ المراغى : "إذاكنت مقتنعا بقوة بما تعمل فسر على بركة الله فى الطريق الواضح أمامك ، ولا تلفت لأى قول يصدر من أحدنا" . وبينما يردد كلماته نظر إلى مبتسما ، وكأن كلانا قد خرج من بوتقة واحدة ، من مدرسة رجال الإسلام فى العصور الماضية .
يتبع
( 4 )
وقبل يوم من رحيلى وزوجتى تاركين القاهرة ، أحد زعماء البدو ، وهو عضو بالبرلمان ، دعانا عن طريق فؤاد بك لمأدبة غداء ؛ وفى هذه المأدبة حضر شيخ الأزهر الحالى ، ويعتبر كبير العلماء بالأزهر ، وهو من المعارضين لترجمة القرآن الكريم - رجل مسن ، ووسيم جدا ويلبس زى رجال الأزهر بعمامة بيضاء . وقد جاء موقعى على المائدة على يمينه . فيما عدا حلمى باشا عيسى "وزيير سابق" ، فقد كان الحضور ممن أثبتوا ولاءهم للدين الإسلامى فى رأى العلماء ؛ كلهم كانوا مجاهدين بما فيهم فؤاد بك مع مصطفى كامل باشا بقناة السويس قبل أن يصبح وزيرا تركيا ببرن . وقد تعجب شييخ الأزهر من أن يرى رجلا انجليزيا فى هذا الجمع ، وحينما قلت له بأنى الرجل الذى ترجم القرآن الكريم للإنجليزية شعرت أنه صدم .
بعد الغداء ، مدح فؤاد بك فى ترجمتى للقرآن ، وأمن الحضور على أنها جديرة بالتقدير ، ظهرت علامات الإمتعاض أكثر على الشيخ ، إلى أن قال له فؤاد بك ، أن عنوان الترجمة سيكون "معانى القرآن المجيد" . حينئذ انفرجت أساريه وابتسم . وقال بما أنه سيفعل ذلك فلا إعتراض وسنكون سعداء . حينما قال ذلك فكأنى عدت من قرون بعيدة ووصلت إلى بر الأمان ، وكنت سعيدا بالنهاية .
كان هذا فى شهر مارس 1930 . وكانت الترجمة قد نشرت فى ديسمبر من نفس العام . وفى إبريل 1931 ، تلقيت خطابا من الدكتور الغمراوى ، يخبرنى فيه أنه تلقى رسالة من شيخ الأزهر يثير فيها أسئلة كثيرة عن الترجمة . ويظهر من هذا الإتجاه أنه كان يريد أن يدين الترجمة بعد كل ما حدث . وانتشرت إشاعة فى ذلك الوقت أن الأزهر يريد ترجمة الترجمة كلمة كلمة ، ويطرح ما تم فى صورته هذه المشوه للحكم على الترجمة ، حيث أنه لا يوجد بالأزهر من يتكلم الإنجليزية . كان هذا وضع عظيم جديد ، بإلا تتم الإدانة بدون نوع من المحاكمة ، كما حدث فى ترجمة مولاى محمد على للإنجليزية ، هذا يعنى أنه الآن بالأزهر فريق قوى متفتح يمكنه التأثير . وقد أجبت على جميع النقاط التى استعان بها دكتور الغمراوى فى مناقشته مع العلماء . والفترة التى قضيتها بمصر واحتككت فيها بكثير من الناس ومنهم علماء بالأزهر ، جعلتنى أوقن بأن هناك تغير كبير فى المفاهيم مما جعلنى مطمئن بأن أية مناقشات ستنتهى إلى خير بإذن الله .
وقد علمت فيما بعد من تقرير نشر بالجرائد ، وذلك بعد فحص الترجمة ، بأن فضيلة شيخ الأزهر ذكر أنها أفضل ترجمة لمعانى القرآن الكريم ، ولكن مع ذلك فهى ليس مسموح بتداولها بمصر . وقال التقرير ، أن السبب ، أننى ترجمت عبارات تعبيرية ومجازية من القرآن الكريم بشكل حرفى إلى اللغة الإنجليزية ، وذلك يدل على أننى لم أفهم معناها .
ولحسن الحظ ، فقد أعطى مثالا على ذلك فى الصحف ، مما جعلنى أفهم سبب الإتهام . فقد ترجمت الآية رقم ( 29 ) من سورة الإسراء ، "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً" ، هكذا ::: “And let not thy hand be chained to thy neck nor open it with a complete opening lest thou sit down rebuked, denuded.”
فهمت قصده ، بأن الترجمة الحرفية حولت المعنى إلى المفهوم الحسى لا المجازى للكرم والبخل ، وأصبحت المسألة مسألة يد وعنق فقط لقارئ الإنجليزية !!! والحقيقة ، أن قارئ اللغة الإنجليزية يفهم من هذه الترجمة بالضبط ما يفهمه قارئ اللغة العربية من نص القرآن الكريم . وبذلك فالإتهام يقوم على أساس غير صحيح بالمرة .
من طرح السؤال بالتقرير الذى فى جريدة الأهرام ، علمت أنه هناك اختلاف وجهات النظر بين وزارة الداخلية والأزهر الشريف ، فوزارة الداخلية دافعت بحماس عن العمل وقدرته ، ولكن المعروف أن الأزهر وراءه الملك يعتبر الجهة الأقوى .
كان هناك تفاؤل فى الإدانة هذه المرة ، فقد كانت معتدلة بشكل رائع ، ويمكن القول بأنها كانت مناسبة تماما ، فبالنسبة للمترجم ، بالنظر إلى ما حدث لترجمات أخرى من نفس المؤسسات ، فتعتبر ممتازة . وهذا فتح جديد بين المسلمين العرب وغير العرب - فالإتهام بأن ترجمة معانى القرآن غير شرعي وتخالف الدين قد سقط تماما ، وأصبحت المناقشات فى فحوى الترجمة التى يقوم بها مسلم ، ومدى مطابقتها للدقة اللازمة لكتاب مقدس . خطوة رائعة للأمام .
انتهى كلام "محمد مارمادوك بكثول"
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة amze في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 08-02-2010, 02:22 AM
-
بواسطة ديكارت في المنتدى منتدى المناظرات
مشاركات: 59
آخر مشاركة: 15-05-2009, 02:28 PM
-
بواسطة المهتدي بالله في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 25-02-2007, 06:48 PM
-
بواسطة الشرقاوى في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 07-10-2006, 04:26 AM
-
بواسطة ali9 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 06-07-2005, 11:19 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات