ب . الحسن والقبح
الحكم بالحسن والقبح على الأشياء والأفعال يتعلق بواقعها، وبملاءمتها أو منافرتها لطبع الإنسان، وبمدحها أو ذمها.
فمن حيث الحكم على واقع الأشياء والأفعال، فإنّ العقل يقرر ذلك؛ لأنّ حسن العلم وقبح الجهل، أو حسن الصحة وقبح المرض، مدرك بالعقل، فبمستطاع العقل إذن الحكم عليه. وحكم العقل من هذه الجهة، هو في واقعه إخبار بحقائق الأشياء والأفعال الواقعة تحت حسه وإدراكه. لذا، فهو يستقلّ بالحكم من هذه الجهة.
والحكم على الأشياء والأفعال، من حيث ملاءمتها لطبع الإنسان أو منافرتها له، يقرره العقل أيضا، لأنّ حسن الحلو وقبح المر، أو حسن إنقاذ المشرف على الغرق وقبح الإعراض عنه، مدرك بالعقل، فبمستطاع العقل إذن تقريره. وحكم العقل من هذه الجهة، هو في واقعه إخبار عن حقيقة الميول الفطرية في الإنسان التي تحدد ما يلائمها أو ينافرها.
وأما الحكم على الأشياء والأفعال من حيث المدح والذم فلا يقرره الإنسان، لأنّ حكمه يبنى على العقل أو الشعور، وهما غير صالحين. فالعقل يدرك ما يقع عليه الحس، ولا يدرك ما لا يحس ولا يتأتى له أن يحكم عليه. والمدح والذم من الأمور التي لا يقع عليها الحس، لذا فلا يجب أن يقررها العقل، بل من الخطأ أن يقررها العقل. وأما الشعور، وهو الميل الفطري نحو أمور أو النفرة منها، فلا يصحّ جعله مقياس الحكم بالحسن والقبح؛ لأنّ الميول البشرية متفاوتة ومتناقضة، تخضع لهوى الفرد ورغباته.
وقد أخطأ العقل الغربي حينما أعطى لنفسه صلاحية الحكم على الأفعال والأشياء بأنها تمدح أو تذم قياسا على حكمه عليها من حيث واقعها، ومن حيث ملاءمتها للطبع أو منافرتها له. ذلك، أنّ البشر غالبا لا تختلف في الحكم على واقع الأشياء والأفعال، لأنّ تقرير الحسن والقبح فيها مدرك حسا، ولكن الاختلاف في مدحها وذمّها. فالنظافة من حيث واقعها حسنة، والقذارة قبيحة، والإخبار بهذا الواقع غير مدحها فتطلب أو ذمّها فتترك. فإذا كان الغرب يمدح النظافة اليوم ويطلبها، فقد كانت مذمومة عنده في عصوره الوسطى وغير مطلوبة، حتّى إنّ من رهبان الغرب من كان يتباهى ويفتخر بأنّ الماء لم يمسس قدمه إلاّ عندما يضطر لعبور نهر. فهذا المدح والذم المختلف من زمن إلى آخر لذات الواقع يدلّ على أنّ الإخبار بواقع الشيء غير مدحه وذمّه، ومنه يدلّ على خطأ ترك المدح والذم لعقل الإنسان العرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة. وأمّا خطأ قياس المدح والذمّ على ما يلائم طبع الإنسان أو ينافره، فبيّن في أمرين: أولهما، هو أنّ الإنسان بطبعه ينفر من قتل النفس البشرية مثلا ويستقبحه، غير أنّ نفرته هذه من فعل القتل لم تؤثّر في مدحه حين قتل عدو مغتصب وفي ذمّه حين الإعراض عنه، مما يدلّ على أنّ الحكم على الشيء أو الفعل بأنّه يلائم الطبع أو ينافره، غير الحكم بالمدح والذمّ، فمن الخطأ أن يقاس عليه. ثانيهما، هو التناقض فيما يلائم الطبع أو ينافره. فاللواط والسحاق مما يلائم طبع الإنسان في تصوّر العقل الغربي، لذلك يمدح فاعله في الغرب ولا يذمّ، لكنّه لا يلائم طبع الإنسان من وجهة نظر المسلم فيذمّ فاعله عنده ولا يمدح. لذا، فلا يصحّ قياس المدح والذم على الحكم بملاءمة الطبع أو منافرته، لأنّه متفاوت بين البشر، متأثر بالذوق والبيئة والثقافة السائدة.
وعليه، فإنّ قياسات الإنسان للخير والشر، وللحسن والقبح، متفاوتة ومتناقضة لصدورها عن عقل قاصر، وشعور متفاوت غير ثابت. لذا، فلا يصحّ أن يترك قياس الخير والشر والحسن والقبح للإنسان، لأنّه يجعلها مختلفة من عصر إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، وهو ما يخالف واقع المبادئ من كونها عالمية يسري وصفها للفعل على جميع بني الإنسان في كلّ العصور. لذلك، كان لا بدّ من قوة وراء العقل تبيّن للإنسان الخير والشر، والحسن والقبح، وتحدّد له تبعا لذلك ما يجلب من مصالح وما يدرأ من مفاسد، وهذه القوة هي خالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى.
ثالثا: إنّ فكرة الحق الطبيعي الغربية – كما مرّ معنا - مبنية بدورها على فكرة القانون الطبيعي. وقد عرف هوبز Hobbes الحق الطبيعي بقوله: " الحق الطبيعي الذي يسميه الكتاب عامة بـ( Jus naturale ) [ باللاتينية] هو الحرية التي عند كل شخص في استعمال سلطته كما يشاء من أجل المحافظة على طبيعته الذاتية"(8). وعرفه كانط Kant بقوله: "...هو فقط ما يعتبره عقل كلّ إنسان قبليا (a priori)"(9). والمراد بهذا – كما مر معنا ذكره إجمالا – أنّ الإنسان يولد بطبيعة معينة، وطبيعته هذه التي ولد عليها أو وجد بها هي قانون سيره وسلوكه، مما يعني أنها هي في ذاتها قواعد ثابتة له أي حقّ.
والخطأ في هذه النظرة أن الغرب أقرّ طبيعة الإنسان على ما هي عليه، وترك للفرد الحرية في إشباعها بالكيفية التي يراها. مما يعني أن الغرب في حقيقة الأمر لم ينظم للإنسان غرائزه وحاجاته وأبقاه على طبعه الحيواني، لأنه في نظره لا يختلف عنه في الجوهر وإنما في النوع. وبتعبير جون واتسون "فإنه لا يوجد حد فاصل بين الإنسان والبهيمة"(10).
والحقيقة، أنّ الإنسان يحتاج إلى نظام دقيق ينظم غرائزه وحاجاته العضوية، ويرتقي به من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة والحضارة، ويسمو به من مجرد الاستجابة للدفع الغريزي إلى التنظيم المحكم الذي يشبع غرائزه وحاجاته العضوية إشباعا يتجلى فيه التناسق والانسجام بين متطلباتها المتباينة.
فالإنسان فيه غريزة النوع التي تنشأ فيه الميل الجنسي، وفيه غريزة حب البقاء التي تنشأ فيه الميل للتملك وحبّ السيادة، وفيه غريزة التدين التي تنشأ فيه التقديس للأشياء والأشخاص، وفيه غير ذلك مما يدفعه للسلوك وفق ميل معيّن. فإذا تركت له الحرية في إشباع غرائزه وحاجاته العضوية فإنه يخضع حتما لميله الفردي الأناني مما ينتج حتما المفاضلة بينها، فيقدم واحدة على الأخرى، ويشبع واحدة ويهمل الأخرى، أو يبالغ في إشباع واحدة ويقصر في الأخرى.
لذلك، فإن الذين غلبوا حبّ التملك على أي شيء آخر لا يعنيهم أن يموت الناس جوعا في حين يمتلكون هم ثروات الأرض كلها، والذين غلبوا الميل الجنسي على كلّ شيء لا يعنيهم عفة فتاة وسترها، والذين كبتوا غريزة التدين فيهم لا يعنيهم تدين الآخرين، والذين غلبوا حب السيادة لا تعنيهم حرية الآخرين. وبعبارة أخرى فإن حرية الآخر لا تعني هؤلاء، ولا تمثّل لهم أي قيمة؛ لأنّهم ينظرون إلى الآخر بمقياس تحكمي يثبت لهم ذاتيتهم وينفي الآخرين.
صحيح أن الغرب قيد الحق الطبيعي أو الحرية بما لا يضر الآخر مما يوفر الاحترام له، ولكن المشكلة التي لا ينكرها مفكرو الغرب هي: ما مدى تأثير هذا المقياس في السلوك؟
إنّ الحديث في الغرب عن إشكالية النزعة الفردية الطاغية على حق الجماعة، وعن الأزمة الأخلاقية والقيمية الموجودة في المجتمع، وعن تفكك الروابط المجتمعية بين أفراد المجتمع، دليل على ضعف تأثير هذه القاعدة على الأفراد. وهو ما دفع بعض القانونيين، كهانز كيلسن Hans Kelsen، إلى إنكار فكرة الحق ذاتها واعتبارها فكرة ميتافيزيقية لا تمت للواقع بصلة. فالفرد بطبيعته يقدم حقه على حقّ غيره، ويجعل من هواه مقياس ما يستحسن ويستقبح، خصوصا وهو ينطلق من نظرة كونية معينة تصوّر له ذاتيته فيما هو عليه من ميول ورغبات وشهوات، وتحدد له الغاية من وجوده في حرية إشباع غرائزه وحاجاته العضوية بالكيف الذي يراه هو ويشتهيه.
06 جمادى الثانية 1428هـ
المفضلات