قال تعالى: "ويخَرّون لِلأذقان يَبكون ويَزيدهم خُشوعاً"

الحمد لله حمداً كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على أخوف الناس وأعرفهم بربه، الهادي إلى طريق الله المستقيم، وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد ،

لِمَ لا نبكِ ..؟!
لِمَ لا يبكِ الإنســـان على نفسه المرهونةِ بالنار، والموت راكبٌ على عُنُقِهِ، والقبر منزِلُهُ، والقيامةُ موقفُه، والخُصمـاء أقوياء، والقاضي هو الجبّار، والمنادي جبريل، والسجن جهنّم، والسجّان الزَّبانية، وهو لا يصبر على حرِّ الشمس، فكيف يصبر على لَسَعـــات الحيَّات والعقارب..؟!

لِمَ لا نبكِ...؟!
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (عينان لا تمسُّهُما النار، عينٌ بكت في جوف الليل من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله) ..
وقد ذكر صلّى الله عليه وسلّم من بين السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلِّه يوم القيامة (... ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله) ..

وقال: (إذا اقشعرَّ جسد العبد من مخافة الله تعالى تحاتّت(تساقطت)عنه خطاياه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة أوراقها).

فَهلُمّوا معي نبكي ..

ألم تسمعوا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :(هل تسمعون ما أسمع، أطّت (صوّتت من ثقلها) السماء وحقّ لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ وملك ساجدًُ لله تعالى أو قائمٌ، أو راكعٌ، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً و لخرجتم إلى الصُّعدات(الطرقات)تجـــأرون إلى الله خوفاً من عظيم سطوته وشدة انتقامه)، لهذا كان لصدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزيز كأزيز المِرجل (قدر النحاس عندما يوضع على النار) من البكاء، وروى الإمام أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل جبريل عليه السلام، فقال له: مالي لا أرى ميكائيل عليه السلام يضحك، فقال جبريل: ما ضحك ميكائيل منذ خُلِقت النار..!

وإليكم صورا من بكاء الصحابة والتابعين عسى الله أن ينفعنا وإياكم بها:
فقد كان أبو بكر رجلا بكّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وكان في وجه عمر بن الخطاب خطّانِ أسودان من البكاء، وكان يسمع آية فيمرض فيُعادُ أياما. وأخذ يوما تِبنَة من الأرض، فقال: يا ليتني كنت هذه التبنة، يا ليتني لم أكُ شيئا مذكورا، يا ليت أمّــي لم تلدني، ورؤيَ عليٌ في بعض مواقفه وقد أرخى الليل ستورَهُ، وغارت نجومه، وقد تمثَّل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململَ السليمِ اللديغ ويبكي بُكاء الحزينِ، وكان يقــول: يا ربَّنا، ياربَّنا ... يتضرَّع إليه، ثم يقول: يا دنيا، يا دنيا، إليَّ تعرّضتِ أم بي تشوَّقت، هيهات هيهات.. غُرِّي غيري، وقد طلّقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فَعُمُركِ قصير وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاضة الطير، ويبكي حتى تجري دموعُهُ على لحيته، وبكى ليلة فبكى أهل الــــدّار، فلما تجلَّت عنهم العبرة قالت زوجته: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مِمَّ بكيت ؟! قال: ذكرتُ مُنصرفَ القوم من بين يدي الله تعالى، فريقٌ في الجنّـــــة وفريق في السعير، ثم صَرَخَ وغُشيَ عليه.

ورُؤيَ أحد التابعين يبكي، ويمسح بدموعــه وجهه، فقيل له:لِمَ تفعل هذا؟! قال: بلغني أن النّــار لا تصيب موضعا أصابته الدموع من خشية الله تعالى.

ورؤيَ الفضيل بن عياض عشيّةَ عرفة بالموقف، وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء، يقول: واسوأتاه، وافضيحتاه، وإن عفوت.! وحدّثوا أن شيخا رأى صبيَّا يتوضأ على ساحل نهر وهو يبكي، فقال الشيخ: يا صبي ما يبكيك؟ فقال الصبي: يا عم قرأت القرآن حتى جاءت هذه الآية: "يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا" فخفت أن يُلقيني الله في النار، قال الشيخ: يا صبي أنت غير مُؤاخذ لأنك لم تبلغ الحُلُم فلا تخف، انك لا تستحق النّــار، فقال الصبي: يا شيخ أنت عاقل .. ألا ترى أن الناس إذا أوقدوا نارا لحاجتهم وضعوا صغار الحطب ثم وضعوا الكبـار..!! فبكى الشيخ وقال: إن الصبي أخوف منَّا من النار.

وكان سعيد بن السائب، لا تكاد تجف له دمعة، إنما دموعه جارية وهرة ، إن صلّى فهو يبكي، وإن لقيته في الطريق فهو يبكي..


فابكوا يا اخواني .. ابكوا ..عسى الله أن يرحمنا ويغفر لنا ويطفئ بدموعنا نيران معاصينا ..!


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين