تقييم المنهج:
ولنقيم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة كما وعدنا سابقا وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتيادية فحينما تتسلم رسالة بالبريد وتقراها فتتعرف على أنها من أخيك لا من شخص أخر ممن يرغب في مراسلتك تمارس بذلك استدلالا استقرائيا قائما على حساب الاحتمال ومهما كانت هذه القضية – وهي أن الرسالة من قبل أخيك – واضحة في نظرك فهي في الحقيقة قضية استنتجتها بدليل استقرائي وفقا للمنهج المتقدم فالخطوة الأولى تواجه فيها ظواهر عديدة من قبيل أن الرسالة تحمل اسما يتطابق مع اسم أخيك تماما وقد كتبت فيها الحروف جميعا بنفس الطريقة التي يكتب بها أخوك كذلك نفس طريقة الإملاء وبعض الأخطاء الإملائية الموجودة في الرسالة هي نفس الطريقة ونفس الأخطاء التي اعتادها أخوك في كتابته الخ وفي الخطوة الثانية تتساءل هل الرسالة قد أرسلها أخي إلى حقا أم هي من شخص أخر يحمل نفس الاسم؟
وهنا تجد أن لديك فرضية صالحة لتفسير وتبرير تلك الظواهر وهي أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقا فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعي أن تتوافر كل تلك المعطيات التي لاحظتها في المرحلة الأولى وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التالي إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي بل كانت من شخص أخر فما هي فرصة أن تتوافر فيها كل تلك المعطيات والخصائص التي لاحظتها في الخطوة الأولى؟ إن هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات لأننا لكي نحصل على كل تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة يجب أن نفترض أن شخصا أخر يحمل نفس الأسلوب ويشابه أخاك تماما في طريقة إملاءه وأسلوبه الخ وهذه مجموعة من الصدف يعتبر احتمال وجودها جميعا ضئيلا جدا وكلما ازداد عدد هذه الصدف التي لابد من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر والأسس المنطقية للاستقراء تعلمنا كيف نقيس الاحتمال وتفسر لنا كيف يتضاءل هذا الاحتمال ولماذا يتضاءل تبعا لازدياد عدد الصدف التي يفترضها، وفي الخطوة الرابعة تقول ما دام توافر كل هذه الظواهر في الرسالة أمر غير محتمل إلا بدرجة ضئيلة جدا على افتراض أن الرسالة ليست من أخيك فمن المرجح بدرجة كبيرة بحكم توافر هذه الظواهر فعلا أن تكون الرسالة من أخيك، وفي الخطوة الخامسة تربط بين الترجيح الذي قررته في الخطوة الرابعة ومؤداه أن الرسالة قد أرسلت من أخيك وبين ضالة الاحتمال التي قررتها في الخطوة الثالثة وهي ضالة احتمال أن تتوافر كل تلك الظواهر في الرسالة بدون أن تكون من أخيك ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أن درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسيا مع ضالة هذا الاحتمال فكلما كان هذا الاحتمال أقل درجة كان ذلك الترجيح اكبر قيمة وأقوى إقناعا وإذا لم تكن هناك قرائن عكسية تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأن الرسالة من أخيك.
الاعتقاد بعقل الآخرين:
يتضح منشأ الاعتقاد بأن للناس الآخرين الذين نعاشرهم أو نطلع على إنتاج متسق ومفهوم لهم عقلا وتفكيرا فإذا ما قرأنا لشخص كتابا متسق المعنى نسلم بأنه عاقل ونرفض احتمال انه مجنون قد تجمعت لديه خواطر جنونية فأنتجت على سبيل الصدفة ذلك الكتاب وقد يخيل للإنسان الأرسطي التفكير أن الاستدلال على عقل هذا المؤلف عن طريق ما يتمثل في كتابه من اتساق ونضج فكري من نوع الاستدلال على وجود السبب بوجود مسببه ولكن الواقع أن الكتاب بقدر ما يتصل بمبدأ السببية لا يمكن أن يبرهن منطقيا- على أساس هذا المبدأ- على أن المؤلف إنسان يتمتع بمعرفة منظمة إذ كما يمكن أن يكون المؤلف لكتاب في اللغة على قدر من المعرفة باللغة أتاح له أن يكتب ذلك الكتاب كذلك يمكن أن يكون مجنونا تتابعت خواطر عشوائية في ذهنه فادت إلى تكون ذلك الكتاب وفي كلتا الحالتين يجد مبدأ السببية تطبيقه الضروري غير أن الدليل الاستقرائي هو الذي يعين الفرضية الأولى وينفي الفرضية الثانية وذلك لان الفرضية الثانية تتضمن عددا كبيرا من الافتراضات المستقلة بقدر فقرات الكتاب لأن كل فقرة من الكتاب إذا كانت نتيجة لخاطر جنوني فلا توجد أي علاقة تلازم بين كل فقرة والفقرات الأخرى وعلى العكس من ذلك الفرضية الأولى فإنها تتضمن عددا أقل من الافتراضات لأن المعرفة التي تفسر على أساس الفرضية الأولى فقرة معينة في الكتاب قد تكون بنفسها تفسر عددا أخر من الفقرات وهكذا تصبح المجموعة من الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الأولى أقل كثيرا من مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الثانية وينشأ على هذا الأساس علمان إجماليان:
أحدهما: العلم الإجمالي الذي يستوعب احتمالات مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الأولى لأن هذه الافتراضات إذا كانت ثلاثة مثلا رمزنا إليها ب ( أ , ب , ج ) ففيها ثمانية احتمالات هي احتمالات الصدق والكذب فيها إذ قد يصدق الافتراض ( أ ) فقط وقد يصدق الافتراض ( ب ) فقط وقد يصدق الافتراض ( ج ) فقط وقد تصدق كل هذه الافتراضات الثلاثة وهذا العلم الإجمالي ينفي الفرضية الأولى بقيمة احتمالية كبيرة لأن كل أطرافه باستثناء طرف واحد وهو افتراض أن يصدق أ و ب و ج جميعا في صالح نفي الفرضية الأولى وهذا الطرف الوحيد حيادي تجاه ذلك لأن أ و ب وج إذا كانت جميعا صادقة فقد يكون الكتاب نتيجة لمعرفة وقد يكون نتيجة لجرة قلم عشوائية.
والأخر: العلم الإجمالي الذي يستوعب احتمالات مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الثانية ولما كانت هذه المجموعة أكبر عددا من مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الأولى فسوف يكون عدد أطراف هذا العلم الإجمالي أكثر وهذا العلم ينفي الفرضية الثانية بقيمة احتمالية أكبر من القيمة التي أعطاها العلم الإجمالي الأول لنفي الفرضية الأولى.
يتبع بإذن الله
المفضلات