الخطاب (9)


نيويورك فى 29 مايو 1961

عزيزى مولانا المودودى

السلام عليكم
لقد سعدت جدا باستلام رسالتك المؤرخة فى 20 مايو وشعرت بارتياح حينما علمت بأئك تتعافى من مرضك . وأتمنى لك الشفاء العاجل .
لك كل الحرية فى نشر خطاباتى ومقالاتى فى "ترجمان القرآن" ، كما تشاء ,
من كل الخطابات التى استلمتها تعليقا على قصتى القصيرة ، فتعليقك هو الوحيد الذى تفهم الذى كنت أريد أن أقوله فيها . كما أخبرتك فالفصل الأخير من هذه القصة القصيرة "أحمد خليل" : السيرة الذاتية للاجئ عربى من فلسطين ، فقد بدأت فيها الكتابة فى أغسطس 1949 حينما كنت فى الخامسة عشر من العمر . الجزء الأول يتكلم عن طفولته المبكرة فى قرية صغيرة جنوب فلسطين ، بيته والبيئة المحيطة وأفراد عائلته ، ينتهى الأمر بطردهم المأساوى من بيوتهم خلال حرب فلسطين عام 1948 ، وما حدث من دمار شامل للقرية (ومع هذا الدمار دمار كلى للقرية) بواسطة القوة المتفوقة الصهيونية . يبدأ الفصل الثانى ، حينما كان عمر "أحمد خليل" ثمانية عشرة عاما وقد تزوج قبل عامين ، وقرر أن يترك مخيم اللاجئين بدون إذن من الحكومة ، مصطحبا البقية الأحياء من عائلته ليؤدوا الحج فى مكة "بشكل غير قانونى" ، وقد قرر أن يجعل المدينة مقره الدائم لحين العودة لفلسطين . باقى القصة تركز على ابن عمه "رشيد" ، الذى كان خلال حياته صديقه الحميم ورفيقه ، وأخيه الصغير المتخلف عقليا "خليفة" ، وابنه المتبقى على قيد الحياة "إسماعيل" ، وابنه المتبنى ، "عبد الرازق" طالب دين بالأزهر الشريف ضرير وقد أصبح راحته الوحيدة . الجزء الأول من القصة بؤكد على شرور المادية الغربية واحتضانها لأغراض الكيان الإستعمارى الصهيونى ، وتنتهى الفصول الأخيرة مبينة الأثر الضار لصناعة النفط فى السعودية حيث يمتد إلى الحياة اليومية والمصير المحتوم لهذه الأسرة العربية المسلمة . قصتى تعبر عن نفس أفكارك التى فى كتبك ، فقط فى صورة قصة . ولأسباب واضحة ، (بعيدا عن قيمتها الأدبية أو قصورها) "أحمد خليل" غير مرغوب فيه هنا ، ولم أتمكن من الحصول على فرصة مع الناشرين الأمريكان .
الأن أنا فى صدد تجميع كتاب آخر ، حيث سيكون عنوانه ، "الإسلام يهاجم من الداخل ومن الخارج" : دعاية أدبية عن معاداة الإسلام . ليس غرضى منه أن أظهر فقط بالتفصيل كيف أن الإسلام يحارب بواسطة المستشرقين الأوروبيين والمسلمين المتغربيين من الداخل ؛ أريد فوق كل هذا لأعرض لعقلية خصومنا . لن يفيدنا مجرد إدانة أعدائنا . لكى نحاربهم بكفاءة ، أعتقد أنه من الضرورى لنا أن نفهمهم ونعرف كيف يفكرون . من بين المؤلفين ، أريد أن أتكلم بالتفصيل عن "ولفرد كانتويل سميث..مدير المعهد الإسلامى بجامعة ماك جيل بكندا" .. "هـ . جـ , ويلز .. المؤرخ البريطانى الشهير" .. "أرنولد توينبى" و "ويليام دوجلاس .. القاضى والذى يعمل حاليا فى المحكمة المريكية العليا" و "جوليان هكسلى .. الأحيائى والمدير السابق لليونسكو من 1946 - 1948 " و "ألبرت شويتزر" و "مسز إليانور روزفلت" و "جون س. باندو ,, المدرس السابق بالكلية الأمريكية ، وويعمل الآن سفيرا لأمريكا بالجمهورية العربية المتحدة" , ومن بين المتغربيين المسلمين ، سأضمن الكتاب ، "ضياء جاكالب" و "د. طه حسين" و "آصف ايه فايز .. وكيل جامعة كشمير" . كل اقتباس ، سيبدأ بفقرات تمهيدية ثم يتبع بتعليقات تفصيلية . وسأكتب مقدمة طويلة فى مقدمة المختارة الأدبية ، وخاتمة الكتاب ستكون مختصرة ومشرقة .
كنت توا أقرأ كتابا يحتوى على معلومات مفيدة ، للراحل "محمد على" ، الرئيس السابق للحركة الأحمدية بلاهور وعنان الكتاب "المسيح الدجال ويأجوج ومأجوج" ، ويشرح فيه ، يكف أن النبوءات للرسول محمد عليه الصلاة والسلام فى هذا الخصوص قد تعنى هيمنة المادية الغربية على العالم . وبالنسبة لتخوفى أن ما يسمى "المساعدات التقنية" لبلدان العالم النامى تعنى فقط توسع المادية الغربية ، نبينا عليه السلام ، كان يعلم ذلك جيدا وقد قال : "أن الدجال سيعطى فقراء المسلمين طعاما ، ولكنه سيخرجهم عن إيمانهم" .
وللأسف ، لقد أفسد الكتاب ، حيث أراد أن يقنع قراءه بأن "ميرزا غلام أحمد" القديانى ، هو المهدى المنتظر .
فى الشهور الأخيرة ، كنت أحاول الإتصال مع "سيد قطب" ، وكما تعرف أكثر من اى شخص آخر ، فقد سجن تحت "ناصر" ، ومنذ حلت الإخوان المسلمون فى عام 1954 . وبالرغم من أنه لم يكن قادرا على الكتابة لى بنفسه ، فقد استلمت من أخته "أمينة قطب" خطابا جميلا تقول فيه بأن خطاباتى له قد وصلته فى زنزانة السجن وأنها تريد أن تكتب لى بالنيابة عنه . سيد قطب عالم ومؤلف لعدة كتب ويعتز بك كثيرا ، وقد أثنى على كتبك ونصحنى بقراءتها . ما أيشع هذا الذى يجرى فى الدول المسماة إسلامية ، الإسلام مضطهد جدا أكثر مما فى الدول الغير مسلمة .
أرفق مع خطابى هذا نسخة من النشرة الأسبوعية للكنيسة المحلية "يونيتاريان Unitarian" ، وآبائى وأختى الكبيرة بفكرون بأن يكونوا أعضاء فيها . حتى الآن مازلت تحت الإنطباع بأن هذه الكنيسة هى من الطائفة النصرانية ، التى رفضت التثليث وألوهية المسيح ، وتنظر إلى سيدنا عيسى عليه السلام بأنه نبى وتؤكد على وحدانية الله . على كل حال ، فأبوى وأختى يعتنقون عقيدة لا تختلف عن "الإنسانية اللاأدرية" لحركة الثقافة الأخلاقية .
منذ خمسة أيام مضت ، فى عيد الأضحىوبعد الصلاة ، وبحضور اثنان من أصدقائى المسلمين ، رسميا نطقت بالشهادتين ، وذلك يدخلنى كاملا فى الإسلام . وقد استلمت من البعثة الإسلامية لأمريكا فى بروكلين ، من الشيخ "داوود أحمد فيصل" شهادة إعتناقى للإسلام . واسمى الآن "مريم جميلة" ومن الآن فصاعدا سأمهر به كل مراسلاتى وكتاباتى . وبما أن آبائى لا يريدون مناداتى بالإسم العربى وكذلك آخرين من العائلة ، فلن أصر عليه معهم ، ولكن معك ومع كل إخوانى وأخواتى فى العقيدة ، فسأستخدم فقط الإسم الجديد الذى أعتز به وأفخر به .
متمنية لك دوام الصحة والتحسن فيها ،
لك فى الإسلام
مريم جميلة


الخطاب (10)


لاهور فى 20 يونيو
عزيزتى مريم جميلة
السلام عليكم ورحمة الله

لقد استلمت خطابك المؤرخ فى 29 مايو وقد سعدت قلبيا بأن أعرف أن أصبحت جزءا لا يتجزأ من الأخوة العظيمة للإسلام ، وذلك بنطقك بالشهادتين وتبنى اسما إسلاميا لك . كل ذلك كان أمر طبيعيا نتيجة أفكارك وقناعاتك . وأتضرع إلى الله سبحانه أن يقبل إخلاصك له ، ويمنحك القوة على العيش والعمل للإسلام ، كما يمنحك ويساعدك على مواجهة الجو المعادى لك والمحيط بك .
وأنا ممتن لك على القلق حول حالتي الصحية. الحمد لله حالتي الصحية قد عادت الى حالتها الطبيعيه. وإن شاء الله ، أنوي المغادره إلى إفريقيا فى يوليو المقبل .
شكرا على السماح بنشر اجزاء من مقالاتك ورسائلك . وفى إعتقادى ، انها ستكون بمثابة فتح لأعين الشباب المسلم هنا ، فستمدهم باكتشاف مغاير لما هم عليه من تغريب أنفسهم ، رغم ولادتهم في مجتمع مسلم وهاهى فتاة ولدت في نظام يهودى فى امريكا الحديثة ، والذي كانت تناضل من أجل الحقيقة وتسعى إلى ممارستها ، وها قد وجدتها فى النهاية . أرجو أن تكونين مثالا لهم يعلمهم درسا .
أرجو أن ترسلى لي نسخة من رواية "أحمد خليل" . سأحاول أن أجد الوقت لقراءتها ، ثم عرضها على دور النشر التى تنشر لى ، "السادة المنشورات الاسلامية المحدوده .. بلاهور" . ويسرني إذا وافقت على طباعتها .
مقتطفاتك عن الدعايه ضد الاسلام يمكن أن تكون مفيدة جدا وومرشدة . هناك العديد من الحقائق التي لا ينبغي ان تغفلى عن ذكرها . أن الشيوعيين فى الشرق ، والديموقراطيين فى الغرب يضعوا أيديهم فى أيدى بعضهم البعض فى العداوة للإسلام . ثانيا ، حينما يخرج أحدهم من أو ينحرف عن الإسلام ، ترتفع الأصوات عاليا في الاوساط الغربية ، مما يشجع المسلمين المحدثين على الجرأة على الإسلام وأكثر تبجحا فى إيذاء الدعاة للإسلام . واستنادا لهذه الانتقادات ، فهم يفسرون الخروج عن الاسلام مرادف "للتنوير" و "التقدم" ، وفى أفراطهم المتزايد ، يكتسبون المعجبين من الذين يدعون تحديث الإسلام ويزدادوا أكثر حماسا فى مخططاتهم . ويجعلون الحكام يشنون حربا مفتوجة على المحكومين ، وكنتيجة لهذا الصدام الداخلى ، تصبح البلاد الإسلامية خالية من الحيوية . وكنتيجة أخرى لهذا الموقف الذى يفتقد الحكمة ، فإن ما يسمى "بدول عدم الإنحياز" ، يصبح خط دفاع ضعيف وغير حصين . وإلى الآن ، فالشيوعية تضطهد المسلمين فى البلاد التى تحكمها ، بينما الدول الغير شيوعية تعمل على إثارة الفوضى فى الدول الإسلامية الحرة ، وبذلك فالهدف الرئيسى من الدفاع المشترك يكون مهزوما . ولذلك فالمسلمين الحقيقيين قد فشلوا فى رؤية أية فروق بين القوتين ، وأجبروا على الإعتقاد بأن جوهرهم هو نفس الشئ . وفى ظل هذا الإشمئزاز والنفور الشديد من الأغلبية الساحقة من المسلمين ، ترى أن التحالفات التى يجريها الحكام هى تحالفات صناعية ، وقد فقدت معناها .
أنتقل الآن إلى سؤالك عن الدجال . فى اللغة العربية فكلمة الدجال تعنى الكذاب والمخادع . ومن هذا المفهوم ، فكل شخص مخادع ، وكذلك كل مجموعة مخادعة قهم دجاجلة . وعلى كل حال ، قالأحاديث التى وردت عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عن الدجال ، (المخادع) تشير إلى أنه شخص فرد . أثناء سلطة الدجال ، كما أخبر بذلك رسولنا ، فإن المسلمين سيقاسون من الإضطهاد . وحينما أرجع إلى الأحاديث التى وردت فى الدجال أو "المسيح الدجال) ، أعتقد أنه لم يأت بعد ، ولكنى أعتقد أن الوقت قد حان لوصوله وستحقق هذه النبوءة سريعا . كما أعتقد أن ظهور الدال سيكون بـ "إسرائيل" .
أنا سعيد باتصالك بسيد قطب وعائلته . وبالرغم من أنه لم تتح لنا فرصة اللقاء وجها لوجه ، غير أن كلينا يعرف الآخر معرفة وثيقة . لقد أرسل لى كتبه من السجن ، وقد قابلت أخاه "محمد قطب" حينما زرت القاهرة عام 1960 . المحن التى يواجهها الإخوان المسلمون بالحديد والنار ، وكذلك كل المسلمون الأصليون فى كل مكان ، لا يجب أن تثير استغرابك . فحينما ينشأ المسلم تحت مظلة الكفر وسيطرته ، ويرفع أعلامه بين يديه ، فسيصل إلى هذا الحد فى اضطهاد اخوته فى الدين ويعاملهم معاملة قد لا يجرؤ غير المسلمين عليها ، ولكن عاجلا أم آجلا وبالتأكيد ، سيأتى الوقت الذى يحصد فيه ما بذر .
دعواتى لك بالتقدم الثابت على طريق الإسلام .

المخلص

أبو الأعلى


يتبع