أفيعقل بمن هذا هو حاله، وشهد له الله به، ولم يكن متهماً عند أحد ممن التقاهم، أن يكون متهماً عند بعض مسلمي اليوم، إنه لم ترد حتى ولا إشارة واحدة في القرآن، تدل على أنه كان يحكم بشريعة الملك . بل لم يرد سوى حكم واحد حكم به وهو حكم ﴿ قالوا جَزَاؤُهُ من وجد في رحله فهو جزاؤه

وهذا الحكم كان بحسب شريعة سيدنا يعقوب . ولم ترد أية إشارة من علم تدل على أنه حكم بغير ما أنزل الله . والشبهة عندهم أتت من قوله تعالى: ﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دينِ الملك إلاّ أن يشاء الله ... ﴾ وهذه الآية متى فسرت تفسيراً صحيحاً أزيلت هذه الشبهة وسقطت هذه الدعوى .

الآية أشكلت على أصحاب هذا الطرح، ففسروها بما يناسب موقفهم، فتراهم يقولون :

بعد أن حلت سنوات المجاعة وصار الناس يأتون من كل حدب وصوب إلى يوسف ليعطيهم من الغلال التي وفرها بتدبيره، والتي فوَّض إليه الملك أمر توزيعها، جاء إخوته فعرفهم وهم له منكرون . فأخبر أخاه الصغير أنه أخوه حتى لا يبتئس، ودبر مكيدة لأخوته بأن جعل السقاية في رحل أخيه على غفلة من الجميع . ففقده وأذن مؤذن أن أصحاب العير سارقون، وجعلوا جائزة حمل بعير لمن جاء به .
فرد إخوة يوسف عنهم الاتهام بكل تأكيد . فقال القائمون على أمر التوزيع من أعوان يوسف ﴿ قالوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِين ﴾ قال إخوة يوسف ﴿ قَالُوا جَزَاؤُهُ من وجد في رحله فهو جزاؤه
أي أن السارق له يسترقّ، وكان هذا على شريعة يعقوب .

فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرجها من وعاء أخيه، فكان جزاؤه الاسترقاق والاستعباد . ثم بعد كل ذلك جاءت الآية لتقول عن سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دينِ الملك

ففسرها البعض على معنى شريعة ونظام الملك . أي أن الملك في مصر كانت له شريعة ونظام وكان سيدنا يوسف عليه السلام يحكم بشريعة هذا الملك ونظامه .

أما في هذه المسألة فقد دبر حيلة يستطيع بها أن يبقي أخاه إلى جانبه . فلجأ وبكيد لطيف لأن يجعلهم ينطقون هم بالعقوبة ليحاسبوا على أساسها، فلم يقل لهم ان جزاء السارق بحسب شريعة الملك هي كذا وكذا، وإنما جعلهم ينطقون بالحكم بحسب شريعة يعقوب ليبقي أخاه عنده .

فتفسير هذه الآية على هذا النحو هو الذي جعلهم يخرجون بمثل هذا الفهم .

ولو عدنا إلى كلمة دين في اللغة العربية لوجدنا أنها من الألفاظ المشتركة التي تحمل أكثر من معنى: فقد جاء في لسان العرب: فالدين تعني القهر والطاعة . تقول: دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا . والدين تعني الجزاء والمكافأة . تقول: دنته بفعله ديناً أي جزيته . ويوم الدين يعني يوم الجزاء . والدين تعني الحساب ومنه قوله تعالى: ﴿ مالك يوم الدين ﴾ . والدين تعني الشريعة والسلطان ومنه قوله تعالى: ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فِتنةٌ ويكون الدين كله لله والدين تعني الذل والاستعباد . والمدين هو العبد . والمدينة هي الأمة المملوكة . ومنه قوله تعالى: ﴿ أئنّا لمدينون ﴾ أي مملكون . ومنه كذلك قوله تعالى: ﴿ فلولا إن كنتم غير مدينين ، تَرْجِعونَها إن كنتم صادقين ﴾أي غير مملوكين .

وهناك معانٍ أخرى لها .

فأي معنى بالتحديد هو المعنى الذي يريده الله سبحانه في الآية ؟ . وانتقاء معنى من هذه المعاني لا بد له من قرينة تجعلنا نأخذ هذا المعنى دون غيره . ومن هنا يتبيّن أن من يأخذ المعنى الذي يناسبه ويناسب توجهه إنما يحكّم هواه في الشرع . ومن يأخذ المعنى المنضبط والمقيد بقرائن شرعية تدل عليه يَكُنْ محكّماً لشرعه ملتزماً أمر ربه . فأي معنى هو المعنى المراد ؟ .

فإن قلنا أن المعنى المراد من كلمة دين هو شريعة وجدنا أن القرائن الشرعية تمنع هذا الفهم إن كان سيؤدي إلى أن سيدنا يوسف قد شارك . فهذا حرام على الأنبياء والمؤمنين، ومخالف لطبيعة الرسالة التي تقوم على إفراد الله في العبودية والتشريع، يقول تعالى: ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنه لا إله إلاّ أنا فاعبدون ﴾ فيوسف عليه السلام الذي يقول للناس : ﴿ إنِ الحكم إلاّ لله، أمر ألا تبعدوا إلاّ إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ لا يمكن أن يخالفهم في ذلك ويقبل بحكم الأرباب المتفرقة .
وفي مثل هذا يقول سيدنا شعيب لقومه الذين يدعوهم: ﴿ … وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، ان أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ وتفسير ذلك عند القرطبي : " أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به " .

وإن قلنا بأن المعنى المراد من كلمة دين هو استعباد، وصار أخوه مديناً أي عبداً مملوكاً فهذا المعنى ينسجم انسجاماً تاماً مع ما سبق الآية من قول إخوة يوسف إن السارق يسترقّ . فيكون معنى الآية: ما كان ليأخذ أخاه في استرقاق واستعباد الملك وجعله مديناً أي عبداً مملوكاً له إلاّ أن يشاء الله .
وهذا هو المعنى الأقرب إلى الصواب . وليس من قرينة شرعية تمنعه . بل ينسجم انسجاماً تاماً مع ما قبله، وينسجم تماماً مع ما وصف الله به سيدنا يوسف من أنه من المحسنين والمخلصين وما شهد له الناس به .

وبهذا ينتفي مثل هذا التفسير الذي يتعارض مع عصمة الأنبياء، وعدم وقوعهم في المعصية، أو أن يقولوا ما لا يفعلون .