يتابع أشعيا تصوير سخط الرب على كل الأمم "اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا، وأيها الشعوب أصغوا، لتسمع الأرض وملؤها، المسكونة وكل نتائجها. لأن للرب سخطاً على كل الأمم وحمواً على كل جيشهم، قد حرمهم دفعهم إلى الذبح. فقتلاهم تطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم" أشعيا (34/1،2،3).





وسخط الرب يصل إلى بني إسرائيل، وعدوانيته تطالهم في أكثر من محطة من محطات التيه، لأنهم شعب "غليظ الرقبة" وما كان لموسى أن يقود جيشاً من البدو الغلاظ لولى أن استعان عليهم برب من هذا الطراز، فهو يعاقبهم في سيناء على صنع العجل الذهبي "فقال لهم، هكذا قال الرب إله إسرائيل ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه" سفر الخروج (32/27).





ويعلق أحد الكتاب أنه "قتل في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل اختيروا عشوائياً لامتصاص غضب النبي الذي شعر بالمهانة، لأن الشعب تنكر له بهذه السرعة"(6).



وقد حاول بعض المفسرين الغربيين رد ظاهرة العنف التوراتي إلى الظروف التي أحاطت بالعبرانيين منذ خروجهم من مصر إلى سبي بابل وتجربة الدياسابورا، بحيث كانوا منبوذين من كل الأقوام التي عاشوا بين ظهرانيها، وكانوا عرضة لعداء الآخرين وأذيتهم، إلا أن مجزرة شكيم (نابلس) من أرض كنعان والتي سبقت تجربة مصر والتيه توضح تأصل طبيعة العنف والغدر في سلوك اليهود خصوصاً وأن منفذيها يعقوب وإبناه شمعون ولاوي، الأول حفيد إبراهيم وكان نبياً ومفضلاً عند إله بني إسرائيل، وأما شمعون ولاوي فهما من الأسباط الإثنى عشر.1 ـ
(وخرجت دينة إبنة ليئة التي ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض. فرآها شكيم ابن حمور الحوي رئيس الأرض وأضجع معها وأذلها" سفر التكوين (34/1-2).





2 ـ فكلم شكيم حمور أباه قائلاً خذلي هذه الصبية زوجة" سفر التكوين (34/4).





3 ـ "فتكلم حمور معهم قائلاً شكيم ابني قد تعلقت نفسه بابنتكم، أعطوه إياها زوجة. وصاهرونا، تعطوننا بناتكم وتأخذون لكم بناتنا، وتسكنون معنا وتكون الأرض قدامكم، اسكنوا واتجروا فيها وتملكوا بها" التكوين (34/8-9-10). وأضاف "كثروا عليَّ جداً مهراً وأعطية، فأعطي كما تقولون لي. وأعطوني الفتاة زوجة" التكوين (34/12).







4 ـ "فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر وتكلموا... إن صرتم مثلنا بختكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم ونسكن معكم ونصير شعباً واحداً".
التكوين (34/13.. 15-16)





5 ـ وبعد أن اختتن جميع الذكور "فحدث في اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابني يعقوب شمعون ولاوي أخوي دينه أخذ كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر"التكوين (34/25).


وأضاف "ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنهم نجسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وحميرهم، وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه. وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت" تكوين (34/27-28-29).





القصة بسيطة ولا تحتاج إلى شرح، ولكن السؤال أين العدالة في قتل شعب كامل مقابل جماع امرأة؟ أم أنها كانت الحجة التي بررت لبني يعقوب جريمتهم ولنلاحظ أيضاً اعتراف النص بالخديعة "


(فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر وتكلموا" تكوين (34/13).

فالرب لا يمانع بخديعة باقي الشعوب "الغوييم" والغدر بها، أيضاً نقرأ تعاليم موسى "


وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين آنية فضة وأمتعة ذهب وثياباً. وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين". سفير الخروج (12/25-26).


فنلاحظ أن الرب يشارك في خداع المصريين.
وبالعودة إلى مجزرة شكيم نجد أن القصة تتكرر، بعد الخروج من مصر ويتكرر المكر والخيانة في مجزرة مديان التي استقبل ملكها موسى وشعبه أثناء الهروب من مصر، بل وزوج موسى من ابنة كاهنه. ومع ذلك أثناء إقامة بني إسرائيل في "شطيم" حدثت قصة معاكسة لقصة أولاد يعقوب لكنها أدت إلى نفس النتائج بل وأدهى كما سترى. حيث تعلق إسرائيل ببغي من أهل مديان، فقام كاهن يهودي بقتلهما معاً. ومع ذلك يقرر موسى الانتقام من أهل مديان، وكان الانتقام رهيباً بحسب أوامر يهوه التي نقلها موسى "



وكلم الرب موسى قائلاً: انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ثم تضم إلى قومك" سفر العدد (31/1-2). "فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر" العدد (31/7).

وأضاف "وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار" العدد (31/9/10).



أي أن بني إسرائيل لم يكتفوا بقتل ملوك مديان وكل الذكور فيها، بل سبوا النساء والأطفال ونهبوا البهائم والمواشي والأملاك، وأحرقوا كل ما تبقى كالبيوت والزروع مما لا يستطيعون قتله أو سبيه أو نهبه. وكان يمكن للقصة أن تنتهي هنا، إلا أن موسى كان أشد عنفاً من يعقوب وأولاده، فاستنكر ما فعل قواده "


وقال لهم موسى هل أبقيتم كل أنثى حية" العدد (31/15). وأمرهم بقتل كل النساء وكل الذكور من الأطفال أيضاً، "فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال" وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها" العدد (31/17).

هذا العنف الذي يتوالى في قصص التوراة، يتأسس كما رأينا على نظرة دونية إلى الأغيار "الأمم" بحيث لم تنج مدينة أو شعباً من حقد يهوه ولعنات أنبيائه.

يقول رب الجنود بهذا الصدد "يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء" أشعيا (13/6).


"أعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم وأبطل تعاظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة" أشعيا (13/10).

"كل من وجد يطعن بالسيف، وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم" أشعيا (13/15-16)

ويتابع رب الجنود في حقده على بابل "فأقوم عليهم يقول رب الجنود وأقطع من بابل اسماً وبقية ونسلاً وذرية يقول الرب" أشعيا (14/22).


يتابع هذا النبي جولة حقده على الممالك والمدن "وحيّ من جهة دمشق. هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم" أشعيا (17/1).


وينطلق من صور الى كتعان "مد يده على البحر أرعد ممالك. أمر الرب عن جهة كنعان أن تخرب حصونها" أشعيا (23/11).

وليس أشعيا وحده من صب جام حقه ولعناته على الممالك والأمم الأخرى، فهذا أرميا يقول "


(بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدا كل بقية تعين لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور" ارميا (47/4).


وعن مؤآب يقول "على كل سطوح موآب وفي شوارعها كلها نوح لأني قد حطمت موآب كإناء لا مسرة به يقول الرب" ارميا (48/28).


وعن عمان يقول "لذلك ها أيام تأتي يقول الرب واسمع في ربة بني عمون جلبة حرب وتصير تلاً خرباً وتحرق بناتها بالنار فيرث إسرائيل الذين ورثوه يقول الرب" ارميا (49/2).



"عن دمشق. خزيت حماه وأرفاد قد ذابوا لأنهم قد سمعوا خبراً رديئاً، في البحر لا يستطيع الهدوء. ارتخت دمشق والتعنت للهرب..."ارميا (49/23-24).

أما لعنة حزفيال فتبدأ على سكان أورشليم "القدس" لنجاساتهم "وقال لأولئك في سمعي اعبروا في المدينة وراءه واضربوا.

لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك" حزفيال (9/5-6).

كما يقول "لذلك هكذا قال السيد الرب وأمد يدي على أدوم وأقطع منها الإنسان والحيوان وأصيرها خراباً من التيمن وإلى "وإن يسقطون بالسيف" حزفيال (25/13).


ويضيف "فلذلك هكذا قال السيد الرب. ها أنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين وأهلك بقية ساحل البحر" حزفيال (25/16).



ونستطيع أن نتابع مع أنبياء بني إسرائيل لعناتهم التي شملت كل الشعوب التي عاشوا في ظلها. حتى أن هيمان ينقل عن الحاخام يعقوب شلامي أحد زعماء الجالية اليهودية في فرنسا أن سبب استمرار اليهود كل هذا الزمن:


1 ـ هو أن نخضع لإرادة الله.


2 ـ أن نواجه باقي الأمم.

لاحظ أن مواجهة الأمم الأخرى تأتي في المرتبة الثانية بعد الخضوع لله، لكن نستطيع أن ندرك بقليل من اللاهوت وأكثر من السياسة أن تلك المواجهة كانت العامل الرئيس الذي ساهم في ربط الجماعة اليهودية إلى بعضها، وشكل أحد أهم عوامل استمراريتها. وفي الشريعة اليهودية إضافة لكل ما ذكرنا ما يكفي من الوصايا لإبقاء تلك المواجهة حية ومنظمة "قطع الأشجار، حرق المزروعات، قتل الأطفال والنساء والبهائم". ويميز دارسو التوراة نوعين من الانتقام أو العنف ضد الأغيار:


النوع الأول:
وهو الأكثر شيوعاً في التوراة وبين القبائل البدوية والمدن المتحاربة في تلك الفترة ويقوم على قتل المحاربين الأعداء في حال الانتصار عليهم، وسبي كل ما عدا ذلك من النساء والأطفال واعتبارهم عبيداً للسخرة أو البيع. إضافة لنهب الأموال الخاصة والعامة (البهائم والغلال والمقتنيات) وفي حالة كون المدينة المنهوبة بعيدة عن مركز استقرار المهاجمين ولا توجد نية للاستقرار فيها فيجري إحراقها بالنار بعد السبي والنهب الذي أشرنا إليه. "


وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك" سفر التثنية (20/14).


النوع الثاني:

وهو استثناء لا يكاد يظهر إلا في حالات الحقد القصوى أو الرغبة في الانتقام، وهو شائع في التوراة تحت اسم "التحريم" كما حصل في مديان، أو عند احتلال أريحا "وحرموا كل ما في المدينة من رجل أو امرأة من طفل وشيخ وحتى البقر والغنم والحمير بحد السيف". سفر يشوع (6/21).



ويلاحظ في حالة التحريم، أنه يستتبع مجزرة القتل تلك إحراق المدينة بكل ما فيها من قتلى وأشياء لا يستثنى إلا بعض المقتنيات الثمينة كحصة لخزنة الرب. نقرأ "وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب" يشوع (6/24).



هذا التحريم هو جزاء المدن التي يعطيك إياها الرب والمقصود مدن (فلسطين) "وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريماً الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك" سفر التثنية (20/16-17).


وفي قصة أخرى عند فتح مدينة عماليق قال رب الجنود "
فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ماله ولا تعف عنهم بل اقتل رجلاً وامرأة طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً. جملاً وحماراً" سفر صموئيل الأول (15/3/4).


لاحظ قتل الرضع!؟

إلا أن الغزاة بقيادة شاول نهبوا بعض الغنيمة للذبح من أجل الرب، فاستاء صموئيل وعاتب شاول "فقال صموئيل هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" صموئيل أول (15/22).

والمقصود الإصغاء إلى تحريم الرب لمدينة عماليق. وهو استكمال لموقف موسى في انتقامه من المديانيين، حين رفض سبي النساء والأطفال الذكور ودعا إلى قتلهم بحد السيف!!!!.



ويؤكد الرب على تحريم الأرض التي وعد بها إسرائيل "

(ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم. لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم" سفر التثنية (7/2-3).


نلاحظ أولاً أن الأسفار تحض باستمرار على طرد الآخر أو قتله، لكن الملاحظة الثانية والأهم في بحثنا هذا أنه في حال استمرار بقاء هذا الآخر فلا تجوز مصاهرته أو مساكنته أو إقامة اتفاق أو عهد معه.

جاء في سفر الخروج "
(احترز أن تقطع عهداً من سكان الأرض التي أنت آت إليها. لئلا يصيروا فخاً في وسطك" خروج (34/12)


ولننتبه أنها وصايا موسى، ويتابع موسى شرح وصيته معللاً الأسباب "

(احترز من أن تقطع عهداً من سكان الأرض. فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم. وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن" خروج (34/15-16).


فكيف يكون الصلح إذا كان أحد الأطراف يحرم قطع العهد؟


يجيب موسى على هذا السؤال حين يعرض على لسان الرب في سفر التثنية لمفهوم الصلح فيقول "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.

وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما. بل تحرمها تحريماً الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك. لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم" سفر التثنية (20/10... 18).

يتبع-: