من دروس الشيخ/صلاح الدين علي عبد الموجود
الذي ينظر لحال الغالب من الملتزمين في هذا الزمان يرى أنهم بحاجة إلى رعاية ومتابعة من العلماء والدعاة الربانيين، فقد عظم العدد ومنَّ الله على الأمة بالأنس بمظاهر الإسلام والعود إلى صور الالتزام. ولكن كما يقال اتسع الرتق على الراتق والثوب بحاجة إلى تغيير، فالعلل كثيرة والأمراض فتاكة وقد تبدوا عوارض المرض وظواهره؛ وقد تختفي و تظهر بين حين وآخر.
وهناك ظاهرة خطيرة وداء عضال ضرب أسمى علاقة ربانية في مقتل، وأظنها أصابت الهدف، وهي معاملة بعض الملتزمين بعضا معاملة المنافق لغيره، مما أوهن رباط الأخوة، وقطع حبل التواصل، وهدم جدران المودة.
فبعد أن يئس الشيطان أن يُعبد من دون الله عند الملتزمين وأهل السبق، إذ به يضرب بين القلوب، بعد التهاون في أمر الله عز وجل، ومخالفة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فتآلف القلوب دلالة على صحة المنهج وسلامة الطريق قال تعالى:
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:63]
فما عليه كثير من الملتزمين من إبطان العداء لإخوانهم، وإظهار البشر لهم؛ فتراهم إخوة في العلانية يضحك بعضهم مع بعض ويتبادلون أطراف الحديث كما لو أنهم يعيشون حالة من الصفاء التي ليس لها نظير، وربما يلقى بعضهم بعضا بالأعناق والقبلات, وحينما يتوارى البعض عن الآخر تبدأ بعض الممارسات التي لا تليق بعامة الناس فضلاً عن أناس يحملون رسالة سامية، وقد يكون سبب هذه العداوة شيء حقير أو خلاف شخصي أو خلاف حزبي أو خلاف طائفي أو..؟!! والله تعالى عليم بذات الصدور.
لقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التشبه باليهود والنصارى في أمور كثيرة، ومنها التشبه بهم في الخلاف، ولهذا قال سبحانه وتعالى ـ لما ذكر اليهود وما جرى لهم ـ
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[الحشر: من الآية14]، فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين وضعف عليهم العقل؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على ما يواجههم فالمرء بأخيه وما أعنيه أبناء العقيدة الصحيحة والمنهج السليم.
فمن العجيب أنك ترى أنه كلما زاد القرب والتلاقي مع بعض من ينتسبون إلى هذه الدعوة ترى بونا شاسعا بين ما تسمعه عن هذا الدين من قيم وأخلاق, وعبادات ومعاملات, وأصول راسخات, فترى نفسك في ازدواجية وقلب للمعايير وبخس للموازين!! فأين الذين يعقلون؟ وأين الذين هم لهذا الدين قائمون؟
فهذا يمكر بهذا وهذا يحارب وعند التلاقي يداهن بعضهم بعضا ويتأولون القول: نبش في وجوه القوم وقلوبنا تلعنهم، ومن شر الناس منزلة من تركه الناس خشية فحشه، فأنزل بعضهم بعضا هذه المنزلة وأسقط بعضهم بعضا هذه السقطة.
وهذا أعاذنا الله منه ضرب من النفاق، ولما هالني أمره أردت أن أجمع عن النفاق كلمات تكون عبرة وذكرى لي ولإخواني-ونسأل الله أن يعيذنا من النفاق.
والنفاق معناه: إظهارُ الإسلام وَالخير، وَإبطانُ الكفر وَالشر؛ سمي بذلك لأنه يدخل في الشرع من باب، وَيخرج منه من باب آخر، وَعلى ذلك نبه الله تَعَالَى بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة: من الآية67]، أي: الخارجون من الشرع.
وجعل الله المنافقين شرًا من الكافرين فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء: من الآية145]
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء: من الآية142].
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)} [البقرة:9 – 10]
أنواع النفاق
النفاق نوعان:
النوع الأول: النفاقُ الاعتقادي: وَهو النفاق الأكبر الذي يُظهر صاحبه الإسلام، وَيُبطن الكفر، وَهذا النوع مخرج من الدين بالكلية، وَصاحبه فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، وَقد وَصف الله أهله بصفات الشر كلها: من الكفر وَعدم الإيمان، وَالاستهزاء بالدين وَأهله، وَالسخرية منهم، وَالميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عدواة الإسلام. وَهؤلاء موجودون في كل زمان، وَلا سيما عندما تظهر قوة الإسلام وَلا يستطيعون مقاومتَه في الظاهر، فإنهم يُظْهرون الدخول فيه؛ لأجل الكيد له وَلأهله في الباطن؛ وَلأجل أن يعيشوا مع المسلمين وَيَأمنوا على دمائهم وَأموالهم؛ فيظهر المنافق إيمانه بالله وَملائكته وَكتبه وَرسله وَاليوم الآخر؛ وَهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، لا يؤمن بالله، وَلا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولًا للناس يهديهم بإذنه، وَينذرهم بأسه وَيخوفهم عقابه، وَقد هتك الله أستار هؤلاء المنافين، وَكشف أسرارهم في القرآن الكريم، وَجلى لعباده أمورهم؛ ليكونوا منها وَمن أهلها على حذر. وَذكر طوائف العالم الثلاث في أول البقرة: المؤمنين، وَالكفار، وَالمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وَفي الكفار آيتين، وَفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لكثرتهم وَعموم الابتلاء بهم، وَشدة فتنتهم على الإسلام وَأهله، فَإِنَّ بلية الإسلام بهم شديدة جدًا، لأنهم منسوبون إليه وَإلى نصرته وَموالاته، وَهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وَإصلاح، وَهو غاية الجهل وَالفساد.
النوع الثاني: النفاق العملي: وَهو عمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء الإيمان في القلب، وَهذا لا يُخرج من الملة، لكنه وَسيلة إلى ذلك، وَصاحبه يكونُ فيه إيمان وَنفاق، وَإِذَا كثر؛ صارَ بسببه منافقًا خالصًا، وَالدليل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ).[رواه البخاري(34)، مسلم(58)]فمن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع، فقد اجتمع فيه الشر، وَخلصت فيه نعوت المنافقين، وَمن كانت فيه وَاحدة منها صار فيه خصلة من النفاق، فَإِنَّهُ قد يجتمع في العبد خصال خير، وَخصال شر، وَخصال إيمان، وَخصال كفر وَنفاق، وَيستحق من الثواب وَالعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك.
ومنه: التكاسل عَنْ الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ فَإِنَّهُ من صفات المنافقين، فالنفاق شر، وَخطير جدًا، وَكان الصحابة يتخوفون من الوقوع فيه.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
"أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ".<رواه البخاري تعليقاً>
قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيرًا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوبُ الله عليه، وَقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، وَيدفعه الله عنه، وَالمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وَبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالْحَدِيثِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ).<رواه أحمد(2/397)>وَفي رواية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ).<رواه مسلم(132)>وفي رواية: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ).<رواه أبو داود(5112)>أي حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة، وَدفعه عَنْ القلب، هو من صريح الإيمان.<كتاب «الإيمان» صـ(238)>
وأما أهل النفاق الأكبر، فقَالَ اللهُ فيهم:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[البقرة:18]. أي: إلى الإسلام في الباطن.
وَقَالَ تَعَالَى فيهم: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:126].والنفاق لم ينته بل هو الآن أخطر منه في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظه القاصي والداني لفشو الأمر وظهوره.
وحالُ المنافقين ليست بجديدة على أمة الإسلام .. فهم أعداء ألِدّاء لهذا الدين منذ بعثة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يكيدون ويدبرون ويخططون وينفذون، وقد وصفهم الله عز وجل في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن، وسميت سورة كاملة باسم المنافقين, وأفاضت السنة النبوية المطهرة في ذلك الأمر العظيم وتوضيحه وجلائه.
ولأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة؛ فإننا لا نزال نرى الصفات نفسها تتوارثها الأجيال المنافقة زمناً بعد زمن حتى وقتنا الحاضر. يقول الله عن صفة من صفاتهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}[المنافقون: من الآية4].فما أكثر المستمعين لحديثهم المنصتين لهرائهم المتابعين لإنتاجهم.
وهم يلبّسون على الناس ويدّعون فيهم الإصلاح والفلاح كما كان فرعون يقول لقومه عن موسى نبي الله عليه الصلاة والسلام: {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ}[غافر: 26].
ومن العجب أن يتولى نفر من المنافقين والمنافقات، إفساد الأمة ومسخها عن دينها ودعوتها إلى التحرر والإباحية والرذيلة, وهكذا هم المنافقون في كل أمة وفي كل قطر يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق, وها هم يسيرون متكاتفين متماسكين يتواصون بالباطل ولهم جَلَد وصبر عجيب
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ}[التوبة: 67] .والعجب ليس من حرص هؤلاء وجدهم واجتهادهم لهدم صروح العفة والفضيلة؛ بل ومحاولة تقويض ركائز الدين بعامة، إنما العجب كيف يرضى بذلك عقلاء القوم وكبارهم، وكيف تترك سموم هؤلاء تنتشر في الفضاء وتنفذ إلى القلوب؟
وَتجد البعض من النَّاسِ يقع في صفة من صفات المنافقين من حيث يشعر, أَوْ لا يشعر، كأن يكون تحاكمه مخالف لشرع الله عز وجل لا يرضى من الحكم إلا ما وافق الهوى كما قال تعالى:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء: من الآية65]وقد أجمل ابن القيم وصفهم وبين أحوالهم بما لا يوجد في كتاب مثله.
قَالَ ابن القيم رحمه الله: النفاق هو الداء العضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئًا منه وهو لا يشعر، فَإِنَّهُ أمر خفي على النَّاسِ، وَكثيرًا ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح وَهو مفسد، وَهو نوعان: أكبر، وَأصغر.
فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وَهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله، وَملائكته، وَكتبه، وَرسله، وَاليوم الآخر، وَهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذب به، لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولًا للناس، يهديهم بإذنه، وَينذرهم بأسه، وَيخوفهم عقابه، وَقد هتك الله سُبْحَانَهُ أستار المنافقين، وَكشف أسرارهم في القرآن، وَجلَّى لعباده أمورهم ليكونوا منها وَمن أهلها على حذر، وَذكر طوائف العالم الثلاثة فى أول سورة البقرة: المؤمنين وَالكفار وَالمنافقين؛ فذكر في المؤمنين أربع آيات، وَفي الكفار آيتين، وَفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم، وَعموم الابتلاء بهم، وَشدة فتنتهم على الإسلام وَأهله، فَإِنَّ بلية الإسلام بهم شديدة جدًا لأنهم منسوبون إليه، وَإلى نصرته وَموالاته، وَهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم وَإصلاح، وَهو غاية الجهل وَالإفساد.
فلله!! كم من معقل للإسلام قد هدموه!.
وَكم من حصن له قد قلعوا أساسه وَخربوه!.
وَكم من علم له قد طمسوه!.
وَكم من لواء له مرفوع قد وَضعوه!.
وَكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوه!.
وَكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوه وَيقطعوه!.
فلا يزال الإسلام وَأهله منهم في محنة وَبلية، وَلا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، وَيزعمون أنهم بذلك مصلحون، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة:12].
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8].
فيما اتفقوا؟؟؟
اتفقوا على مفارقة الوحي، فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون،
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53].
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}[الأنعام: من الآية112].وَلأجل ذلك
{اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}[الفرقان: من الآية30]، درستْ معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، وَدثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وَأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وَكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وَأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله، وَلم يرفعوا به رأسًا، وَلم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وَأفكارهم بأسًا، خلعوا نصوص الوحي عَنْ سلطنة الحقيقة، وَعزلوها عَنْ وَلاية اليقين، وَشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فقابلوها بغير ما ينبغي لها من القبول وَالإكرام، وَتلقوها من بعيد وَلكن بالدفع في الصدور منها وَالأعجاز، وَقالوا: ما لك عندنا من عبور، وَإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز، أعدوا لدفعها أصناف العدد وَضروب القوانين. وَقالوا لما حلت بساحتهم: ما لنا وَلظواهر لفظية لا تفيدنا شيئًا من اليقين. وَعوامهم قالوا: حسبنا ما وَجدنا عليه خلفنا من المتأخرين، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين، وَأقوم بطرائق الحجج وَالبراهين، وَأولئك غلبت عليهم السذاجة، وَسلامة الصدور، وَلم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر وَلكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وَترك المحظور، فطريقة المتأخرين: أعلم وَأحكم، وَطريقة السلف الماضين: أجهل لكنها أسلم، أنزلوا نصوص السنة وَالقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان؛ اسمه على السكة، وَفي الخطبة، فوق المنابر مرفوع، وَالحكم النافذ لغيره<يريد ما قام به الأمراء من المماليك بالفرد بالملك والسلطان وجعل أمر الخليفة هامشي فلا حجة له ولا برهان>، فحكمه غير مقبول وَلا مسموع، لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ وَالخسران، وَالغل وَالكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، وَالبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وَقلوبهم قلوب المحاربين، وَيقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: من الآية8].رأس مالهم الخديعة وَالمكر، وَبضاعتهم الكذب وَالختر، وَعندهم العقل المعيشي؛ أن الفريقين عَنْهُم راضون وَهم بينهم آمنون
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9].
عللهم وأمراضهم!!
قد نهكت أمراض الشبهات وَالشهوات قلوبهم فأهلكتها، وَغلبت القصود السيئة على إراداتهم وَنياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون،
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:10].مَنْ علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، وَمَنْ تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، وَمَنْ دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وَبين التصديق، ففسادهم في الأرض كثير، وَأكثر النَّاسِ عنه غافلون،
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)}[البقرة:11-12].
المتمسك عندهم بالكتاب وَالسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول، وَالدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا، فهمه في حمل المنقول، وَبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة، وَما هو عندهم بمقبول، وَأهل الإتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم وَمجالسهم بهم يتطيرون،
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة:13].لكل منهم وَجهان: وَجه يلقى به المؤمنين، وَوجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وَله لسانان: أحدهما يُقَبِّل بظاهره المسلمون، وَالآخر يترجم به عَنْ سره المكنون، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة:14].قد أعرضوا عَنْ الكتاب وَالسنة استهزاءً بأهلهما وَاستحقارًا، وَأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه أشرًا وَاستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15].خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات؛ فركبوا مراكب الشبه وَالشكوك، تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين،
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:16].أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى وَالضلال، ثم طفأ ذلك النور وَبقيت نارًا تأجج ذات لهب وَاشتعال، فهم بتلك النار معذبون، وَفي تلك الظلمات يعمهون،
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة:17].أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر<الوَقْرُ: ثِقَلٌ في الأُذن بالفتح وقيل هو أَن يذهب السمع كله والثِّقَلُ أَخَفُّ من ذلك وقد وَقِرَتْ أُذنه بالكسر تَوْقَرُ وقْراً أَي صَمَّتْ ووَقَرَتْ وَقْراً.. «لسان العرب»(باب: «وقر»)>، فهي لا تسمع منادي الإيمان، وَعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى، فهي لا تبصر حقائق القرآن، وَألسنتهم بها خرس عَنْ الحق، فهم به لا ينطقون {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[البقرة:18]
أثر الهدى على قلوبهم
صاب عليهم صيب الوحي وَفيه حياة القلوب وَالأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد وَالوعيد؛ وَالتكاليف التي وَظفت عليهم في المساء وَالصباح، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا في الهرب وَالطلب في آثارهم وَالصياح، فنودي عليهم على رءوس الأشهاد، وَكشفت حالهم للمستبصرين وَضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين وَالمقلدين فقيل:,
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة:19].ضعفت أبصار بصائرهم عَنْ احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وَضياء معانيه، وَعجزت أسماعهم عَنْ تلقي وَعوده ووَعيده وَأوامره وَنواهيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه، لا ينتفع بسمعه السامع، وَلا يهتدي ببصره البصير،
{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: من الآية20].
علاماتهم ودلائل معرفتهم
لهم علامات يُعرفون بها مبينة في السنة وَالقرآن، بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم وَالله الرياء، وَهو أقبح مقام قامه الإنسان، وَقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلًا، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}[النساء: من الآية142]، أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وَإلى هذه مرة وَلا تستقر مع إحدى الفئتين، فهم وَاقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وَأعز قبيلا {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء:143]، يتربصون الدوائر بأهل السنة وَالقرآن، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. وَأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وَإن كان لأعداء الكتاب وَالسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وَأن النسب بيننا قريب. فيا من يريد معرفتهم، خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[النساء:141].يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته وَلينه، وَيشهد الله على ما في قلبه من كذبه وَمينه، فتراه عند الحق نائمًا، وَفي الباطل على الأقدام قائما، فخذ وَصفهم من قول القدوس السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة:204]، [SIZE="5"]
أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد وَالعباد، وَنواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش وَالمعاد، وَأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة، وَالذكر، وَالزهد، وَالاجتهاد، [/SIZE]{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة:205]، فهم جنس بعضه يشبه بعضًا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وَينهون عَنْ المعروف بعد أن يتركوه، وَيبخلون بالمال في سبيل الله وَمرضاته أن ينفقوه، كم ذكَّرهم الله بنعمه فأعرضوا عَنْ ذكره وَنسوه، وَكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليجتنبوه، فاسمعوا أيها المؤمنون {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة:67]، إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وَجدتهم عنه نافرين، وَإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وَسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وَبين الهدى أمدًا بعيدًا، وَرأيتها معرضة عَنْ الوحي إعراضًا شديدًا،
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}[النساء:61].فكيف لهم بالفلاح وَالهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وَأديانهم، وَأنى لهم التخلص من الضلال وَالردى! وَقد اشتروا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة! وَقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقًا،
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}[النساء:62].
نشب زقوم الشبه وَالشكوك في قلوبهم فلا يجدون له مسيغًا،
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[النساء:63].تبًا لهم!! ما أبعدهم عَنْ حقيقة الإيمان، وَما أكذب دعواهم للتحقيق وَالعرفَانِ، فالقوم في شأن وَأتباع الرسول في شأن، لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسمًا عظيمًا يعرف مضمونه أولو البصائر، فقلوبهم منه على حذر إجلالًا له وَتعظيمًا، فقَالَ تَعَالَى تحذيرا لأوليائه وَتنبيهًا على حال هؤلاء وَتفهيمًا:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء:65].
وصف المنافقين
[SIZE="5"]تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وَكشف ما لديه، وَكذلك أهل الريبة يكذبون وَيحلفون؛ ليحسب السامع أنهم صادقون، [/SIZE]{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2].تبًا لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق وَبعد الشقة نكصوا على أعقابهم وَرجعوا، وَظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش وَلذة المنام في ديارهم فما متعوا به، وَلا بتلك الهجعة انتفعوا، فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عَنْ موائد أطعمتهم، وَالقوم جياع ما شبعوا، فكيف حالهم عند اللقاء وَقد عرفوا ثم أنكروا؛ وَعموا بعد ما عاينوا الحق وَأبصروا،
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3]أحسن النَّاسِ أجسامًا، وَأخلبهم لسانًا، وَألطفهم بيانًا، وَأخبثهم قلوبًا، وَأضعفهم جنانًا، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون:4]، [SIZE="5"]يؤخرون الصلاة عَنْ وَقتها الأول إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، وَالعصر عند الغروب، وَينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، وَيلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب، وَلا يشهدون الجماعة، بل إن صلى أحدهم ففي البيت أَوْ الدكان، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، هذه معاملتهم للخلق، وَتلك معاملتهم للخالق، فخذ وَصفهم من أول المطففين وَآخر وَالسماء وَالطارق فلا يُنَبِّئُكَ عَنْ أوصافهم مِثْلُ خَبِيرٍ [/SIZE]{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة:73].
بينهم وبين أهل السنة والإيمان
فما أكثرهم! وَهم الأقلون، وَما أجبرهم! وَهم الأذلون، وَما أجهلهم! وَهم المتعالمون، وَما أغرهم بالله! إذ هم بعظمته جاهلون،
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56].
إن أصاب أهل الكتاب وَالسنة عافية وَنصر وَظهور، ساءهم ذلك وَغمهم، وَإن أصابهم ابتلاء من الله وَامتحان يمحص به ذنوبهم وَيكفر به عَنْهُم سيئاتهم أفرحهم ذلك وَسرهم، وَهذا يحقق إرثهم وَإرث من عداهم، وَلا يستوي من موروثه الرسول وَمن موروثهم المنافقون،
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ(50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)}[التوبة:50-51]، وَقَالَ تَعَالَى في شأن السلفين المختلفين وَالحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ وَالتخليط: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران:120] ، كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وَفساد نياتهم فثبطهم عنها، وَأقعدهم، وَأبغض قربهم منه وَجواره لميلهم إلى أعدائه، فطردهم عنه وَأبعدهم، وَأعرضوا عَنْ وَحيه فأعرض عَنْهُم، وَأشقاهم وَما أسعدهم، وَحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين، فقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:46]، ثم ذكر حكمته في تثبيطهم، وَإقعادهم، وَطردهم عَنْ بابه، وَإبعادهم وَأن ذلك من لطفه بأوليائه وَإسعادهم، فقال وَهو أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:47]، ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وَأعياهم حملها فألقوها عَنْ أكتافهم وَوضعوها، وَتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وَصالت عليهم نصوص الكتاب وَالسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها وَدفعوها، وَلقد هتك الله أستارهم، وَكشف أسرارهم، وَضرب لعباده أمثالهم، وَأعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر، وَبينها لهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9]هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وَبين بدعته وَهواه، فهي في وَجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل، وَاستبدل منها بالفصوص، فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وَإسرارهم،
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ(27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(28)}[محمد:26-28]، أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وَفلتات اللسان، وَوسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر وَالإيمان، وَظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وَأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف وَالنقاد، كيف وَالناقد البصير قد كشفها لكم، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ(29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ(30)}[محمد:29-30].
عاقبة النفاق والمنافقين
فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وَتجلى الله جل جلاله للعباد، وَقد كُشِفَ عَنْ سَاقٍ
{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)}[القلم:42-43]، أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وَهو أدق من الشعرة وَأحد من الحسام، وَهو دحض مزلة، مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطأ الأقدام، فقسمت بين النَّاسِ الأنوار وَهم على قدر تفاوتها في المرور وَالذهاب، وَأعطوا نورًا ظاهرًا مع أهل الإسلام، كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة، وَالزكاة، وَالحج، وَالصيام، فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح، فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبين أهل الإيمان بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلكن قد حيل بين القوم وَبين المفاتيح، بَاطِنُهُ الذي يلي المؤمنين فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَما يليهم مِنْ قِبَلِهِم الْعَذَابُ وَالنقمة، ينادون من تقدمهم من وَفد الإيمان، وَمشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان، انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا، وَلا جواز اليوم إلا بمصباح من النور قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً، حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحدٍ في مثل هذا المضمار، كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق، فهل يلوي اليوم أحدٌ على أحدٍ في هذا الطريق؟ وَهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق؟ فذكروهم باجتماعهم معهم وَصحبتهم لهم في هذه الدار، كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار "أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ" نصوم كما تصومون، وَنصلي كما تصلون، وَنقرأ كما تقرؤون، وَنتصدق كما تصدقون، وَنحج كما تحجون، فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور؟ قَالُوا: بَلَى وَلَكِنَّكُمْ كانت ظواهركم معنا، وَبواطنكم مع كل ملحدٍ وَكل ظلومٍ كفورٍ، {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(15)}[الحديد:14-15].لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك وَالله أكثر من المذكور، كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض، وَفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وَتتعطل بهم أسباب المعايش، وَتخطفهم الوحوش وَالسباع في الفلوات، سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين فقال: يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك.
خوف السلف من النفاق
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقه وَجله، وَتفاصيله وَجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين، قَالَ عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رَسُول اللَّهِ منهم قَالَ لا وَلا أزكي بعدك أحدا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.<رواه البخاري تعليقًا>
وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: «مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ»<ذكره البُخَارِي>
وَلقد ذكر عَنْ عن أبي الدرداء قال: ((استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع)).<«شعب الإيمان» للبيهقي>
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانًا وَيقينًا، وَخوفهم من النفاق شديد، وَهمهم لذلك ثقيل، وَسواهم كثير منهم، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وَهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وَميكائيل، زرع النفاق ينبت على ساقيتين: ساقية الكذب وَساقية الرياء، وَمخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة وَعين ضعف العزيمة، فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وَبنيانه، وَلكنه بمدارج السيول عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فإذا شاهدوا سيل الحقائق يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكشف المستور، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كَالسَرَابِ
{يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور: من الآية39]، قلوبهم عَنْ الخيرات لاهية، وَأجسادهم إليها ساعية، وَالفاحشة في فجاجهم فاشية، وَإِذَا سمعوا الحق كانت قلوبهم عَنْ سماعه قاسية، وَإِذَا حضروا الباطل وَشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم، وَكانت آذانهم وَاعية.
فهذه وَالله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل، قبل أن تنزل بك القاضية إذا عاهدوا لم يفوا، وَإن وَعدوا أخلفوا، وَإن قالوا لم ينصفوا، وَإن دُعُوا إلى الطاعة وَقفوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صدفوا، وَإِذَا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وَانصرفوا، فذرهم وَما اختاروا لأنفسهم من الهوان وَالخزي وَالخسران، فلا تثق بعهودهم، وَلا تطمئن إلى وعودهم فإنهم فيها كاذبون، وَهم لما سواها مخالفون، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}[التوبة:75-77].<«مدارج السالكين»(1/347)>
فنسأل الله أن يصلح قلوبنا ويعصمنا من الزلل وينجينا من النفاق - اللهم آمين.
المفضلات