هذه المقالة كتبها الشاعر المصرى فاروق شوشة فى جريدة الاهرام الصادرةاليوم 10-12-2006 :

كانت فكرة كتابة لامارتين ـ الشاعر الفرنسي الشهير عن حياة محمد ـ مجرد مقدمة لكتاب ضخم عن تاريخ تركيا يقع في سبعة أجزاء‏,‏ كتبه لامارتين بعد أن جاوز الستين من عمره عام‏1854,‏ وبعد أن ترك الاشتغال بالسياسة وصراعاتها‏,‏ وبعد أن تخفف من سطوة الابداع الشعري والأدبي التي أصبح بفضلها نجما متألقا في سماء الأدب العالمي‏.‏

لابد أن نعود ـ ثانية ـ إلي المقدمة البديعة ـ الشديدة التركيز والعمق ـ التي كتبها الدكتور أحمد درويش للترجمة العربية من الكتاب‏,‏ وهو يوضح أن لامارتين كان قد قرر العودة إلي التاريخ بعد أن عاش الحاضر وملأ الدنيا وشغل الناس‏,‏ ولفت الانظار بقدرته علي التأليف الغزير حول تاريخ روسيا وتاريخ تركيا في مجلدات كثيرة‏,‏ وكيف كانت المسألة الروسية والمسألة التركية من أكثر ما يشغل السياسيين في أوروبا في القرن التاسع عشرة فلم يبتعد لامارتين إذن باختياراته عن حجم تأملاته وتجاربه السابقة‏.‏

ويبدو أنه بعد أن انتهي من كتابة تاريخ تركيا التي كانت تمثل الامبراطورية الإسلامية لذلك العصر‏,‏ رأي أنه لايمكن فهم تاريخها بمعزل عن حياة صاحب الدعوة الإسلامية فكتب المقدمة التي أصبحت كتابا مستقلا‏.‏

كما حدث لمقدمة كتاب ابن خلدون العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر فقد أصبحت هذه المقدمة أشهر من الكتاب نفسه‏,‏ وأكثر دورانا علي ألسنة الناس وأقلامهم‏,‏ ونسي الناس الكتاب الأصلي‏,‏ ولم يعودوا يذكرون إلا المقدمة التي أسست علما جديدا هو علم الاجتماع باعتراف العلماء في الشرق والغرب‏.‏

فما الذي يقوله أكبر كاتب وأكبر رجل دولة في فرنسا ـ في القرن التاسع عشر ـ وهو يكتب عن حياة محمد؟ إنه يقدم عبارات حافلة بالثناء والإعجاب في مثل قوله والترجمة للباحث التونسي الدكتور محمد قوبعة والمراجعة والاختيار للدكتور أحمد درويش‏):‏ ما من إنسان البتة رسم لنفسه إدراك هدف أسمي مما نوي محمد أن يبلغ‏,‏ إذ كان هدفا يفوق طاقة البشر‏,‏ يتمثل في نسف المعتقدات الزائفة التي تقف بين المخلوق والخالق‏,‏ وإرجاع الله للإنسان‏,‏ وإرجاع الانسان لله‏,‏ وبعث الفكرة الألوهية المجردة المقدسة في خضم فوضي الآلهة المادية المشوهة‏,‏ آلهة الوثنية‏,‏ وما من إنسان البتة ـ في نهاية المطاف ـ استطاع أن ينجز في وقت أوجز ثورة علي الأرض أعظم أو أبقي مما أنجز هو‏.‏

ثم يقول لامارتين عن نبي الاسلام‏:‏ فإذا كانت عظمة المقصد‏,‏ وضآلة العدة‏,‏ وضخامة النتيجة هي مقاييس عبقرية الانسان الثلاثة‏,‏ فمن يجرؤ أن يقارن ـ علي الصعيد الإنساني ـ أي عظيم من عظماء التاريخ الحديث بمحمد؟ إذ إن أبعدهم في الشهرة لم يهز سوي أسلحة وقوانين وممالك‏,‏ ولم يؤسس ـ إن كان أسس شيئا ـ سوي قوة مادية غالبا ما انهارت قبل أن ينهار هو‏.‏

أما محمد‏,‏ فإنه قلقل جيوشا وتشريعات وزرع ممالك‏,‏ وهز شعوبا وعروشا‏,‏ بل إنه هز فوق ذلك معابد وآلهة وأديانا وأفكارا‏,‏ ومعتقدات وأرواحا‏,‏ وأقام علي أسس كتاب صارت كل كلمة فيهش قانونا‏,‏ انتماء إلي أمة روحية تجمع شعوبا من مختلف اللغات والأجناس‏,‏ وطبع في تلك الأمة ـ بأحرف لاتمحي ـ مقت الالهة الزائفة‏,‏ وعشق الله الواحد المجرد‏.‏
ولا يفوت الدكتور أحمد درويش أن يشير إلي أن استقبال كتاب حياة محمد في الأوساط الثقافية الفرنسية في القرن التاسع عشر‏,‏ كان مختلفا‏,‏ خاصة عند المهتمين بقضايا الفكر الديني‏,‏ والمتعصبين ضد الإسلام وحضارته‏,‏ فقد وجهت إلي لامارتين تهم تصل إلي حد الإلحاد والكفر من جراء تعاطفه وإعجابه الشديد بشخصية محمد‏,‏ والسيرة الحضارية الراقية لدعوته‏,‏ وبالارتفاع بقيمة الشرق مصدر الحضارات ومنبع الديانات‏.‏

ولم يكن موقف الأجيال التالية أقل قسوة علي الكتاب‏,‏ فقد تم عمدا إهمال إعادة طباعته علي مدي ما يقرب من مائة وخمسين عاما منذ صدور طبعته الأولي سنة‏1854‏ حتي صدور طبعته الثانية بالفرنسية هذا العام‏,‏ في مناسبة احتفالية الدورة العاشرة لمؤسسة البابطين التي أقيمت في باريس وحملت عنوان شوقي ولامارتين‏,‏ وصدور طبعته العربية في المناسبة نفسها لتكون متاحة لكل قراء العربية‏,‏ وأصبح صدور الكتاب في طبعتيه‏:‏ الفرنسية والعربية مجرد إنجاز واحد ضمن إنجازات شتي تمخضت عنها دورة شوقي ولا مارتين‏.‏