مدى حجية أخبار الآحاد في إثبات الصفات
الأخبار المقبولة التي تثبت بها الأحكام والأمور الخبرية العلمية تنقسم إلى أربعة أقسام:
أحدها: أخبار متواترة لفظاً ومعنى.
وهي الأخبار التي يرويها عدد كبير غير محصور في عدد معين، ولكنه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وهم معروفون بالضبط والعدالة والثقة وغيرها من الصفات المعتبرة عند علماء هذا العلم الشريف.
والحديث الذي يرويه هذا العدد بهذه الصورة يسمى متواتراً لفظاً ومعنى، وله أمثلة كثيرة معروفة في موضعها ومن أبرزها حديث الرؤية، وقد رواه ثلاثون صحابياً كما ذكر الحافظ ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح)، وساق كل حديث بعد أن أفرد له فصلاً مستقلاً في الكتاب المذكور.
وثانيها: أخبار متواترة معنى، وإن لم تتواتر بلفظ واحد، وله أمثلة كثيرة مثل أحاديث العلو والاستواء، وأحاديث إثبات العرش نفسه حيث نقلت هذه الأخبار بعبارات مختلفة من طرق كثيرة، يمتنع معها التواطؤ على الكذب عقلاً وعادة، وأمثلتها كثيرة، وقد تناقلها خيار من خيار من سلف هذه الأمة واستمر الأمر إلى يوم الناس هذا.
وثالثها: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة، وهي من قبيل الآحاد عند علماء هذا الشأن.
رابعاً: أخبار الآحاد مروية بنقل رواة عدول ضابطين من أول السند إلى آخره.
أما القسم الأول والثاني، فحجيتهما محل إجماع عند أهل العلم، من سلف هذه الأمة إلا ما كان من العقليين الذين لا يقيمون وزناً للأدلة النقلية مهما تواترت، قال في شرح الطحاوية: قسمت المعتزلة والجهمية والروافض والخوارج الأخبار إلى قسمين:
1- المتواتر
2- الآحاد.
فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، لأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات.
وأما الآحاد قلا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طرقها، ولا من جهة متنها، "ثم قال الشارح رحمه الله: فسدوا على القلوب معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وهي في الحقيقة كسراب بقيعة بحسبه الظمآن ماء"إلى آخر كلامه .
هذا موقف كبرى الطوائف الإسلامية -كما يقولون- هنا يحق لي أن أتساءل: ما الفرق بين قول الذين يقولون: إن شريعة القرآن غير صالحة اليوم لتطبيقها. إذ هناك قوانين وضعها الخبراء المختصون، وهي من أصلح ما يوجد لهذا الوقت، إذ هي تساير الحياة المتطورة التي نعيشها، وإن كنا نؤمن بأن القرآن من عند الله، وأن السنة النبوية المطهرة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولكننا لا نرى تطبيق شريعتهما للظروف التي ذكرناها أو ذكرنا بعضها.
ما الفرق بين هذا الموقف وبين موقف الذين يقولون: إن الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لا نشك أنها قطعية الثبوت عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأحاديث، ولكننا نعتقد أن هذه الأدلة اللفظية ظنية لا تفيد اليقين فلا نرى الاستدلال بها -على سبيل الاستقلال- في باب العقائد بل نرى وجوب الاستدلال بالأدلة القطعية، وهي الأدلة العقلية.
هل هناك فرق بين الموقفين؟! لا يمكن أن يجاب إلا بـ (لا).
إذاً فما معنى الإيمان بالقرآن وبمن أنزل عليه القرآن؟! إن لم يكن معناه التصديق بأن القرآن كلام الله، وأن السنة وحي من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الغرض من إنزالهما هو العمل بهما عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً وسلوكاً ثم تطبيق ذلك عملياً، هذا هو المعنى الصحيح للإيمان بالكتاب والسنة.
ولهذا نرى أن عبارة القوم ينقض آخرُها أولَها، إذ لا معنى لكونها قطعية الثبوت ظنية الدلالة إلا رفض النصوص بهذا الأسلوب المخدّر، هذا ما نفهمه من تلك العبارة التقليدية التي يرددها بعض علماء الكلام، وبعض الأصوليين الذين تأثروا بعلم الكلام، وهي قولهم:
(إن الأدلة اللفظية قطعية الثبوت ظنية الدلالة) فخلافهم لا تأثير له في الإجماع لأنهم قد اتبعوا غير سبيل جمهور أهل العلم الذين يرون أن الأدلة النقلية هي العمدة في جميع المسائل الدينية، وتعتبر الأساس في هذا الباب وغيره، والأدلة العقلية تابعة لها، وسوف لا تخالفها عند حسن التصرف فيهما.
وأما القسمان الثالث والرابع فالذي عليه عمل المسلمين في الصدر الأول وما يليه من عصور التابعين الاحتجاج بهما إذا صحت، وتلقتها الأمة بالقبول مستدلين بها في كل باب في الأمور الخبرية وغيرها، وقد كان مدار الاحتجاج بالأخبار عندهم الصحة فقط، ولا شيء غير الصحة.


يتبع........