بسم الله الرحمن الرحيم

إنه لموقف يثير تساؤلا؟!!
هل من الجائز أن يبحث مسلم استسلم لربه، وتعاليم نبيه عن حجية القرآن والسنة، أو عدم حجيتهما وهو لا يزال مسلما؟!!
هل من الجائز أن يتوقف كاتب مسلم في صلاحية القرآن والسنة للاستدلال بهما في باب العقيدة، بينما هو يستدل بما يظن أنه معقول العقليين دون أدنى توقف؟!!
الجواب: لا.
إن هذه النهاية التي انتهى إليها أمر العقيدة الإسلامية هي التي تجعلنا نكتب تحت هذا العنوان حيث أصيب كثير من المثقفين من أبناء المسلمين باضطراب في عقائدهم. ذلك الاضطراب الذي أساسه إعراضهم عن كتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ، إذ صار حظهما عندهم تقديس ألفاظهما تقديساً شكلياً مع هجرانها في العمل والتحكيم وعدم الرجوع إليها لأخذ أسس العقيدة منهما.
هما اتجاهان متناقضان: العناية التامة بألفاظ القرآن والسنة يحفظهما عن ظهر قلب، وطبعهما أحسن طباعة، ونشرهما بين القراء، وتخصيص مدارس ومعاهد وكليات لهما، وتخصيص إذاعة خاصة تعرف بـ(إذاعة القرآن الكريم) في بعض العواصم العربية والإسلامية، وهو أمر لم يسبق له نظير في التاريخ، وهو اتجاه كريم يستحق التقدير والإعجاب، ويقابل ذلك إعراض تام عنهما، وعزلهما عن حياة الأمة العامة والخاصة، مع الانحلال التام والبعد عن تعاليمهما ومبادئهما إلا من شاء الله، وقليل ما هم، وإذا أردنا أن نعرف تاريخ بدء هذا الانقسام، فلا بد من الرجوع إلى الوراء.
وبعد نشأة (علم الكلام) في العصر العباسي، في أواخر عصر بني أمية انقسم الناس ثلاث فرق في هذا الباب:
1- أتباع السلف الصالح التابعون لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سلك مسلكهم، واقتفى أثرهم من أهل الحديث في كل عصر ومصر، الذين نرجو أن يكونوا هم الفرقة الناجية. وطريقتهم الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من شريعة وعقيدة، وإثبات صفات الله الواردة فيهما على ظاهرها اللائق بالله دون التورط في التأويل ظناً وتخميناً، ودون تشبيه وتمثيل جرأة على الله إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، وهم أيضاً يقولون بالآيات الكونية الدالة على وجود الله العليم الحكيم، وأفعاله الصادرة عن حكمة بالغة كما لا يهملون الأدلة العقلية، إذ لا يجوز تعطيل العقل في مجال العقيدة وغيرها، لأن العقل أساس التكليف، ومناط الأهلية، إلا أنه لا يجوز أن يتجاوز حدوده ويتجاهل وظيفته، ويجمح في مجال الخيال الفاسد، والأوهام الكاذبة بعيداً عن نور الوحي.
والخيال والوهم لا يصلحان أساساً للعقيدة والمعرفة الصحيحة حتماً ، علماً بأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح .
2- فريق يؤمن بالجملة بالله وبكلامه (القرآن)، وبسنة نبيه إيماناً فاتراً خالياً عن الحرارة والحلاوة. وهذا الفريق يستدل على ما آمن به من كمالات الله - في حدود تصوره- بالأدلة العقلية التي يسميها بالبراهين القطعية، ولا يرى الاستدلال بأدلة الكتاب والسنة، بدعوى أنها أدلة ظنية لا تفيد العلم اليقيني. وهو موقف أهل الكلام بالجملة علماً بأنهم فرق شتى، وقد تسربت بعض عقائدهم، ودخلت على الأشاعرة المتأخرين من حيث لا يعلمون، وسيأتي تفاصيل ذلك إن شاء الله.
3- فريق يبدأ عقيدته من ذهن خال، فيأخذ في التفكير والبحث الدقيق ليصل بتفكيره وبحثه إلى الإيمان، بعد أن يقطع أشواطاً طويلة في التأني والسير خطوة خطوة حتى يصل للإيمان بأي شيء، أدى إليه تفكيره، فيؤمن به ويسميه حقيقة. يشبه بعض الكتاب هذا الفريق بقاضٍ عدل عرضت عليه قضية ما وهو خالي الذهن، فجعل يستمع إلى أقوال الخصوم وحججهم، حتى يدرك موقع الحق من عرض حججهم، فيحكم بينهم بما أدى إليه اجتهاده، بعد ذلك العرض الطويل من أقوال الخصوم وحججهم، وهؤلاء هم الفلاسفة الذين يسمون أنفسهم (بالحكماء) في الوقت الذي يسمون فيه غيرهم بالعوام، وقد يثبتون واسطة أحياناً، وهم علماء الكلام كما يقول أبو الوليد بن رشد: (إن علماء الكلام ليسوا بالعلماء -الحكماء- وليسوا من العوام) بل يسميهم (جدليين).
هكذا تفرق المسلمون في موقفهم من أدلة الكتاب والسنة، وهو الذي دعانا للكتابة في هذا الموضوع (حجية القرآن والسنة في مبحث العقيدة).
وبعد: فالقرآن والسنة هما المصدران الأساسيان لكل بحث في العقيدة، لأنهما وحيان من الله، ويمثلان الرسالة التي كلف الله بها رسله المختارين من البشر، لتكون رابطة بين السماء والأرض، وتحمل إلى سكانها أخبار السماء، أحكاماً ربانية وتعليمات وتوجيهات إلهية.
وقد كانت تلك الرسالات متحدة في أصول الدين والإلهيان، إذ كانت كلها تنادي أول ما تنادي: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} .
إذ كانت كلها تخرج من مشكاة واحد أي (من عند الله)، ولو كانت من مصادر متعددة لاختلفت وتضاربت، ولكنها كانت متنوعة ومختلفة في الشريعة والمناهج. حيث جعل الله لكل نبي ورسول شرعةً ومنهاجاً، يناسب أحوال وظروف أمته رحمة منه سبحانه ولطفاً، إنه لطيف بعباده.
ولقد كان كل نبي يبعث إلى قومه وبلسان قومه في ضوء منهج معين، وتشريع محدود ومؤقت. {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} واستمرت هذه السنة هكذا مدة من الزمن طويلة لحكمة يعلمها العليم الحكيم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
ولما حان الوقت الذي أراد الله أن يختم فيه رسالاته إلى أهل الأرض اختار من بين عباده نبيه المصطفى محمداً من أمة أمية (العرب)، وقد كانت على فطرتها السليمة دون أن تتأثر بأي حضارة من الحضارات القائمة في ذلك الوقت، الحضارة الفارسية، والرومانية، والهندية، وغيرها، اختاره ليرسله إلى الناس كافة، وليختم به الرسالات، وبعد تمهيدات وإرهاصات مرّت عليه في صباه بعثه إلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابه الأخير الذي ختم به الكتب السماوية (القرآن الكريم).
وقد وصفه بأنه كتاب مبارك ، وأنه {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، ولقد تكفل الله حفظ هذا الكتاب، إذ يقول عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ووكل تبيانه إلى رسوله، وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يقول جل وعلا: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وشهد له سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى في بيانه هذا وأداء أمانة الرسالة: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، ولما كانت هذه مكانته وهذا شأنه أوجب الله طاعته، وحرم معصيته، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، إذ يقول عز من قائل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول بعض أهل العلم عند تفسير هذه الآية: "أعاد الفعل مع طاعة الرسول إعلاناً بأن طاعته عليه الصلاة والسلام تجب استقلالاً، من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: ثم أمر الله تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله، إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك الرد خير لهم في العاجل وأحسن تأويلاً في العاقبة".
و(شيء) في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}، نكرة في سياق الشرط، تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دُقِّه وجُلِّه، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، فإنه من الممنوع أن يأمر تعالى بالرد عند النـزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النـزاع، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، وهو إجماع بين أهل العلم، وهذا يدل على أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً، ولكنهم بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة اهـ.
هذا.. ولا يشك مسلم مهما انحطت منـزلته العلمية، وضعفت ثقافته، وضحلت معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل الله عليه من القرآن، ذلك لأن الإيمان بأن الله أنزل القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه بلغه كما نزل، وأنه بيّن للناس، وأوضح ما يحتاج إلى البيان والإيضاح، وأنه دعا الناس إلى معرفة الله بصفات الكمال، ولم يفتر عن الدعوة إلى الله وإلى تعريف العباد بربهم حتى التحق بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.
إن هذا المقدار من الإيمان من أصول هذا الدين وأساسه الذي ينبني عليه ما بعده من واجبات الدين وفروضه، إذا كنا نؤمن هذا الإيمان - ويجب أن نؤمن- فأين نجد بيانه عليه الصلاة والسلام، الذي به يتحقق امتثاله لتلك الأوامر؟
{بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} ، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ} .
الجواب: نجد ذلك في سنته المطهرة التي هي خير تفسير للقرآن بعد القرآن، والتي قيض الله لها من شاء من عباده فصانوها، وحفظوها من كل قول مختلق، وكل معنى مزيف، ودونوها منقحة مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كما تقدم.
والذكر المنـزل المحفوظ هو القرآن الكريم في الدرجة الأولى، والسنة تدخل في عموم الذكر عند التحقيق، وإنعام النظر وبيان ذلك:
إذا كان القرآن الكريم محفوظاً بنص الآية السابقة، فإن السنة المطهرة محفوظة أيضاً بدلالتها نفسها، وتوضيحه كالآتي:
1- إنها داخلة في عموم الذكر، لأنها تذكّر، كما أن القرآن يُذَكّر.
2- حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموساً لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالاً أمناء ونقاداً أذكياء يدركون من العلل الخفية ما يعجز عن إدراكها غيرهم، منهم من قاموا بدراستها وحفظها سنداً ومتناً، وجمعها، ومنهم من عمدوا إلى غربلتها وتصفيتها حتى يتبين المقبول من المردود. ومنهم من دققوا في أحوال الرواة حتى إنهم يدرسون أحوالهم راوياً راوياً، بل حتى إنهم ليعرفون آباءهم وأجدادهم ومشايخهم، وتلامذتهم الذين حدثوا عنهم إلى آخر تلك الخدمة الفريدة التي قدمت ولا تزال تُقدم للسنة المطهرة، ولله الحمد والمنة.


يتبع.........