رأي المعاصرين من الخوارج
بيان رأي الخوارج في مسألة القول بخلق القرآن، الذي لم يعد – ولله الحمد – يذكر على لسان أحد إلا في بطون الكتب وبين مدارسات العلماء.
لقد ذكر علماء الفرق أن الخوارج قد قالوا بخلق القرآن واعتقدوه حقاً لا يمارى فيه بزعمهم، ولهم شبه واهية وتأويلات بعيدة، وفي ذلك يروي الأشعري أن الخوارج كلهم يقولون بأن القرآن مخلوق بإجماع منهم على هذا الحكم فيقول : "والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن" .
ويقول ابن جميع الإباضي في مقدمة التوحيد: " وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق".
وقد بين الورجلاني الإباضي أدلتهم على خلق القرآن، وناقش فيه المخالفين لهم بقوله: "والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً ".
ثم جاء بالأدلة وهي الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن وهي كثيرة مثل قوله تعالى:
( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )القدر: 1، وقوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ )الشعراء: 193، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ )الدخان: 3، وغيرها من الآيات.
ويقول الحارثي الإباضي في إثبات رأي الخوارج في القول بخلق القرآن أيضاً: " فعند المحققين من الإباضية أنه مخلوق إذ لا تخلو الأشياء إما أن تكون خالقاً أو مخلوقاً، وهذا القرآن الذي بأيدينا نقرؤه مخلوق لا خالق؛ لأنه منزل ومتلو وهو قول المعتزلة".
وفيما يتعلق بموقف السلف في هذه القضية فإنهم يمتنعون عن وصف القرآن بما لم يوصف به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة الصحابة من أنه مخلوق أو غير مخلوق.
وفي هذا يقول ابن تيمية مبيناً رأي السلف في هذه المسألة: " وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله" (..
ويقول ابن قدامة: " ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" (.
وقد كفر كثير من علماء السلف من قال بخلق القرآن أورد منهم الأشعري عدداً كبيراً ثم قال: " ومن قال إن القرآن مخلوق وإن من قال بخلقه كافر، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة ".
ويقول أيضاً: " وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل، وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ولم نجد أحداً ممن تحمل عنه الآثار وتنقل عنه الأخبار ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم ولا موقع لقولهم" (7) .
ومثله ما أورده الدرامي والإمام أحمد بن حنبل من أقوال لعلماء السلف يكفرون فيها من قال بخلق القرآن) ، وهي أقوال كثيرة لا حاجة بنا إلى سردها هنا لأن مضمونها كما قلنا واحد، وهو إثبات القول بعدم خلق القرآن وتكفير من قال بخلقه.
وأما احتجاج القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )الزخرف: 3، أي خلقناه قرآناً عربياً؛ فهذا احتجاج باطل إذ أن جعل التي بمعنى خلق تتعدى إلى مفعول واحد، وهنا تعدت إلى مفعولين فهي ليست بمعنى خلق (9) .
وينقض أيضاً احتجاجهم هذا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19].
وكذا قوله تعالى: ( وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً )النحل: 91.
فهل يصح جعل في هاتين الآيتين وأمثالهما بمعنى خلق، هذا لا يمكن ؛ فلو كانت جعل تأتي بمعنى خلق دائماً على ما قالوه لكان المعنى واضحاً وهو أن قريشاً خلقت الملائكة، وكذا الآية الأخرى وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً تعالى الله وتقدس اسمه !!.
وأما الاحتجاج على خلقه بإنزاله، فإن هذا لا دلالة لهم فيه وذلك أن الإنزال أو النزول لا يعرف من إطلاقه على الحقيقة إلا أنه هبوط من مكان عال إلى مكان أسفل منه، وقد أثبت الله تعالى أن القرآن منزل منه تعالى بمعنى أنه تكلم به نبيه عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام الذي نزل به إلى قلب سيد المرسلين، وهذا هو الواضح والمعروف فيه.
ولهذا فقد فهمه الصحابة ولم يبحثوا فيما وراءهم لعلمهم بأنه غير مقصود، ولكن الجهلة من المبتدعة القائلين بخلقه تجاوزوا هذا الأمر الواضح وتعسفوا النصوص على ما يوافق أهواءهم المنحرفة، مع أن النزول والتنزيل والإنزال في الحقيقة كما يقول العلامة ابن القيم: "مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا المفهوم منه لغة وشرعاً ". ولا يلزم منه خلق المنزل فقد أسند النزول إلى الله عز وجل وهو قديم، كما وصفه به رسوله أنه ينزل إلى سماء الدنيا.
وقد حاول علي يحيى معمر الإباضي أن يجعل الخلاف بين القائلين بخلق القرآن وبين النافين به خلافاً لفظياً، إذا أهمل جانباً التطرف- كما يقول – ويعني به أنه لما اشتد الجدل بين الطرفين في مسألة خلق القرآن انقسموا إلى فريقين " فتطرف جانب حتى زعم أن، المصاحف والحروف قديمة، وتطرف جانب آخر حتى نفى صفة الكلام عن الله تبارك وتعالى " .
ويرى أن " يكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع، وهي أن الله تبارك وتعالى سميع بصير متكلم، وأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ".
ولا شيء فيما يريد علي معمر أن يجمع عليه الناس في هذه القضية، لولا أنه لم يوضح رأيه في خلق القرآن، بل اكتفى بالقول بأنه كلام الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كذلك لولا أن الإباضية يستدلون على خلق القرآن بإنزاله، فلا يكفي إذا ما رآه كافياً للتوفيق بين القائلين بخلق القرآن أو إنزاله، وبين القائلين بعدم خلقه.
هذا ولابد من الإشارة إلى أن بعض العلماء من الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، فصاحب (كتاب الأديان) وهو إباضي يرد على المعتزلة ويبطل قولهم بخلقه فيقول: " فإن عارض معارض واحتج بقول الله سبحانه: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا )السجدة: 4، فكل شيء بين السماء والأرض فهو مخلوق قلنا لهم: وقد قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ )الحجر: 85، فالحق الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما هو كلامه وهو خارج عن الأشياء " (..
ومن أئمة الإباضية القائلين بأن القرآن غير مخلوق أيضاً أبو النضر العماني فإنه كان ينكر ذلك القول إنكاراً شديداً وله قصيدة طويلة يرد بها على القائلين بخلق القرآن بلغت خمسة وسبعون بيتاً، وهي قصيدة جيدة فيها إبطال كل ما احتج به القائلون بخلقه، يقول في هذه القصيدة:
يا من يقول بفطرة القـــرآن / جهلاً ويثبت خلقه بلســان
لا تنحل القرآن منك تكلفـــاً / ببدائع التكليف والبهتـــان
هل في الكتاب دلالة من خلقـه /أو في الرواية فاتنا ببيــان
الله سماه كلاماً فادعـــــه / بدعائه في السر والإعــلان
ألا فهات وما أظنك واجـــداً /في خلقه يا غر من برهان (14)
ثم يشرع في الرد بالتفصيل مبيناً أن الجعل في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )ليس نصاً صريحاً في الخلق،ثم استدل بدعاء إبراهيم الوارد في قوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا )[إبراهيم: 35]، وقوله (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ) [إبراهيم: 40]]... إلخ.
وعلى كل حال فإن الخوارج لم يقتصروا على القول بخلق القرآن، بل كانت منه طائفتان أقدمتا على مالم يخطر على بال مسلم يؤمن بأن القرآن كله كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه كله حق من فاتحته إلى خاتمته، لم يدخله باطل في كل آياته- لم يخطر هذا القول في حسبان مسلم يؤمن بالله رباً وبمحمد نبياً، فضلاً عن اعتقاده، هاتان الطائفتان هما العجاردة والميمونية فقد أنكرتا سورة يوسف، وادعتا بأنها ليست من القرآن، وحجتهم في هذا أن القرآن جاء بالجد، وسورة يوسف اشتملت على قصص الحب والعشق.
وقد جزم كثير من العلماء بصحة ما نسب إلى الميمونية والعجاردة في هذا الاعتقاد، وإن كان الأشعري قد حكى عنهم هذا القول وهو غير جازم بصحته حيث قال: "وحكى لنا عنهم مالم نتحققه أنهم يزعمون – يعني العجاردة – أن سورة يوسف ليست من القرآن"..
وتبعه الشهرستاني فذكر هذا القول على أنه قد حكي عنهم، ولكن عبد القادر بن شيبة الحمد. صاحب (كتاب الأديان) يقول عنهم: "وينكرون سورة يوسف أنها ليست من القرآن، ويقولون هي قصة من القصص خلافاً لأهل الاستقامة – يعني بهم الإباضية- يقولون: القرآن كله كلام الله" ..
وكما قال الأشعري في العجاردة، قال في الميمونة، فحكى عنهم هذا القول وهو غير مثبت من صحته، ولكن البغدادي قد بين سند هذا القول إليهم بأنه من حكاية الكرابيسي وذلك في قوله: " وحكى الكرابيسي عن الميمونية من الخوارج أنهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن، ومنكر بعض القرآن كمنكر كله"..
ويزيد الشهرستاني في السند الكعبي والأشعري فيقول: " وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكار كون سورة يوسف من القرآن " (. ويجزم صاحب كتاب (الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة) بأن ميموناً أنكر سورة يوسف أنها من القرآن، وذلك في قوله عنه: "وأنكر سورة يوسف أنها ليست من القرآن على قول عبد الكريم بن عجرد"20.