علماء في رعاية الخليفة
بداية نذكر ما نقله ابن العبري عن الأندلسي:-

فقد قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: إن العرب في صدر الإسلام لم تكُن معنية بأيٍ من أنماط العلوم، سوى تلك المتعلقة بلغتها وأحكام الشريعة، هذا فضلاً عن بعض المعارف ذات الصلة بالطبِّ الذي مورس من قبل شريحة محددة من الأشخاص وذلك نظراً للحاجة الماسة لهذه المهنة، لصون النفس وحمايتها، وقد استمر الأمر على ذلك حتى في ظلِّ الدولة الأموية.
وأضاف الأندلسي” فلمَّا أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم؛ ثابت الهمم من غفلتها وهبَّت الفطن من ميتتها، وكان أول من عُني منهم بالعلوم؛ الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، وكان مع براعته في الفقه؛ كلفاً في علم الفلسفة وخاصةً علم النجوم”..
ويضيف ابن العبري” فمن المنجمين في أيام المأمون؛ حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار.. ومنهم أحمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل إلى علم هيئة الأفلاك.. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت، كبير القدر في علم النجوم.. ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، كان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجة الأول والثاني.. ومنهم يحيى بن أبي المنصور، رجل فاضل كبير القدر إذ ذاك مكين المكان..”.

ابن ماسويه.. الطبيب المترجم الكبير
ومن الحكماء الذين قرّبهم المأمون؛ يوحنا بن البطريق الترجمان، الذي كان أميناً على ترجمة الكتب الحكمية، ومن الأطباء سهل بن سابور، وكان إذا اجتمع مع ابن ماسويه، كل من جيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري؛ قصَّر عنهم في العبارة، ولم يقصّر عنهم في العلاج”.
ومن طبيعة الأسماء العلمية الضخمة التي قرَّبها المأمون وكانت رافعته ودولته في أنشطة الترجمة وعلوم الفلك والطب والهيئة والرياضيات، فضلاً عن الفلسفة والمنطق؛ يمكن لنا إذا التقين من أن ارتقاء الدول يتطلب إرادة وحاضنة سياسية، كانت كفيلة آنذاك بوضع العالم الإسلامي في رأس هرم الأمم المتقدمة علمياً وفكرياً.
بنو موسى بن شاكر.. أسرة موسوعية

عاشت هذه الأسرة المباركة في القرن الثالث الهجري، وتبدأ القصة من الأب الذي كان مقرَّبًا إلى الخليفة المأمون العباسي، وأتقن علوم الرياضيات والفلك حيث اشتهر بحساباته الفلكية المتميزة.. الجدير بالذكر هنا ما أورده المؤرخون من دور المأمون (ذلك الخليفة العالم) في التكوين العلمي لموسى بن شاكر الذي عُرف عنه قطع الطريق في بدايات حياته، إلا أن المأمون نجح في تحويل مسار حياته ليقطع أشواطًا في طريق العلم بدلاً من قطع طريق المارَّة!!..
ولا بد أن تتوقف هنا لتدرك دور الحاكم المسلم في تقدُّم مسيرة بلاده العلميَّة؛ فقد كانت جهود الخلفاء – كما ترى – تتعدى التوجيه العام إلى التبنِّي الخاص المباشر لمشروعات علميَّة بشريَّة.. يتعهَّدها بنفسه، وينفق على تنميتها بسخاء..
ولم يتمكَّن موسى بن شاكر من مواصلة مسيرة العلم مع بنيه؛ إذ مات وهم صغار.. إلا أنه كان قد عهد بهم إلى المأمون رحمه الله، الذي يواصل القيام بدوره الفريد في احتضان العلماء ورعايتهم؛ فنراه يتبنى بالكامل بني موسى علميًّا وتربويًّا؛ فلقد تكفَّل بهم بعد وفاة أبيهم، وعهد بهم إلى عامله على بغداد "إسحق بن إبراهيم المصعبي" الذي كان – كما تشير الروايات التاريخية – يُسمي نفسه (خادمًا لأبناء موسى!!) من كثرة ما كان المأمون يوصيه بهم؛ فلقد كان المأمون لا يقطع السؤال عنهم كلما كتب إلى بغداد وهو في أسفاره وغزواته في بلاد الروم.
ولم يُخَيِّب إسحق بن إبراهيم رجاء الخليفة؛ فقد عهد بأبناء موسى إلى شخصية علمية بارزة في بغداد آنذاك وهو "يحيى بن أبي منصور" مدير بيت الحكمة ببغداد وأحد علماء الفلك، فنشأ الإخوة الثلاثة نشأة علمية خالصة في ذلك الصرح العلمي الضخم (بيت الحكمة) الذي كان يُعد محور العلم في الأرض دون منازع؛ إذ كان يعجُّ بالكتب والعلماء والآلات الغريبة النادرة... في هذا الجو المُشَبَّع بالعلم والمحتدم بالمناقشات الهامة بين العلماء نشأ هؤلاء الأطفال (بنو موسى) وترعرعوا؛ فلا عجب إذًا أن يصيروا فيما بعد من أساطين العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية..
والحق أنه من الصعب مغادرة هذه اللقطة الهامة من لقطات الروعة في الحضارة الإسلامية دون أن نكرر الانبهار والإعجاب بخليفة مثل المأمون الذي يستطيع - من بين المعارك وهموم السياسة – أن يخصص قدرًا غير ضئيل من اهتمامه وجهده لتفقُّد أطفال ثلاثة يحرص على أن يكونوا علماء كأبيهم!!.. حتى ليكتب عبر الصحاري والقفار إلى عامله على بغداد المرَّة بعد المرَّة، لا ينسى في أيٍّ منها الوصاية ببني موسى.. لا عجب بعد ذلك أن تبلغ الحضارة الإسلاميَّة في تلك العهود المجيدة آفاقًا لم يبلغها غيرها.. ولا عجب – أيضًا – أن يهبط المسلمون عن تلك القمم هبوطًا مخجلاً بعد أن تخلَّوا عن العلم الذي هو من ميراث النبوَّة..
أوقدت النشأة في بيت الحكمة – إذًا – شعلة العلم في عقول وقلوب الإخوة الثلاثة؛ فتعاونوا فيما بينهم في البحوث والدراسات؛ حتى نبغوا في الهندسة والرياضيات والفلك، وعلم الحيل (الميكانيكا) الذي عرفنا طرفًا من جهودهم فيه في مقال سابق.
وإذا كنا سنتوقف الآن أمام ظاهرة (بني موسى بن شاكر) التي لمعت في سماء الحضارة الإسلامية خلال القرن الثالث الهجري، وشكَّلت سبقًا للمسلمين في ميادين البحث العلمي الجماعي بكل ما يميزه من سمات وما ينتج عنه من ثمار.. إذا كنا سنتوقف أمام هذه الجماعة العلميَّة الفذَّة فإننا سنحاول النظر إليها من ثلاث زوايا: ملامح العمل الجماعي وإنجازاته، إلى جانب رصد ذلك السخاء المادي الفريد في الإنفاق على العلم ورعاية الباحثين، وأخيرًا تبنِّي الطاقات العلمية الناشئة كدليل على التجرُّد للعلم.. وكنوع من ردِّ الجميل للأمة التي أخرجتهم وللمجتمع الذي تعهَّدهم.