ومن المعقول أيضًا أن ينكر الأمين ذلك من ناحيته أيضًا، والمعقول أن يبدأ بالتدبير على المأمون ليصدف عنه قلوب رجاله، وأن تتسلسل الحلقات وتستطرد الإجراءات المحتومة الوقوع في مثل هذه الحالات.
وربما كنا على حق إذا قلنا: إن النزاع أضحى بين الفضلين؛ ابن سهل وابن الربيع، وانقلب عنيفًا أعظم العنف، فقد كان بين كفايتين لا يعرفان الونية ولهما من الحصافة وثقوب البصيرة، ومن سعة الحيلة وفَدْح الخَتْل، ومن وفرة الحنكة وغناء الاختبار، ومن مضاء العزيمة وثروة الذهن، لهما من ذلك كله وما إلى ذلك من شتى الصفات السياسية ما لا قبل لأحدهما به من صاحبه، فلكلٍّ من صاحبه بواء ونديد، ومُنازِل عنيد، وكميٌّ صنديد.
وقد أثار موقف الأمين من أخيه غضب أهل خرسان؛ فانحازوا إلى المأمون ضد أخيه، وكان على رأس المؤيدين “هرثمة بن أعين” قائد الجند، و” طاهر بن الحسين” الذي خرج على رأس جيش كبير معظمه من الفرس من خراسان.
وفي المقابل جهز الأمين جيشًا مكونا من ثمانين ألف مقاتل معظمهم من عرب البادية، وجعل عليه علي بن عيسى”، وكان يكره أهل خراسان؛ لأنهم دسوا عليه عند الرشيد، فعزله من ولاية خراسان وحبسه، حتى أطلقه الأمين واتخذه قائدًا لجيشه.
والتقى الجيشان على مشارف “الري”، ودارت بينهما معركة عنيفة، كان النصر فيها حليفًا لجيش المأمون بقيادة “طاهر بن الحسين”، وقُتل “علي بن عيسى” قائد جيش الأمين.
وأعلن طاهر بن الحسين خلع الأمين، ونادى بالبيعة للمأمون بالخلافة؛ فأرسل الأمين جيشًا آخر قوامه عشرون ألف مقاتل، وجعل على رأسه “عبد الرحمن بن جبلة الأبنادي”، لكنه لقي هزيمة منكرة وقُتل الكثير من جنوده، وما لبث أن قُتل.
وأرسل الأمين جيشًا ثالثًا بقيادة “أحمد بن مزيد” على رأس أربعين ألف مقاتل من عرب العراق، ولكن طاهر بن الحسين استطاع أن يبث جواسيسه داخل ذلك الجيش فأشاعوا الفرقة بين قواده وجنوده حتى اقتتلوا وانسحبوا عائدين قبل أن يلقوا خصومهم.
ولم يستطع الأمين أن يجهز جيشًا آخر لملاقاة أهل خراسان، بعد أن رفض الشاميون السير معه، وانضم عدد كبير من جنوده وأعوانه إلى خصومه، وفر كثير منهم إلى المدائن.
حصار بغداد وسقوط الأمين
وقد سادت الفوضى والاضطراب “بغداد” عاصمة الخلافة؛ حتى قام “الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان” بانقلاب ضد الأمين، وأعلن خلعه من الخلافة، وحبسه هو وأمه زبيدة في قصر المنصور في (رجب 196 هـ = مارس 812م)، وأعطى بيعته للمأمون، لكن فريقًا من أنصار الأمين استطاعوا تخليصه من الأسر، وأعادوه إلى قصر الخلافة.
وتقدم جيش المأمون نحو بغداد فحاصرها خمسة عشر شهرًا، وضربها بالمجانيق حتى أصيبت بأضرار بالغة، وتهدمت أسوارها، وأصابها الخراب والدمار، وسادت فيها الفوضى، وعمت المجاعات حتى اضطر الأمين إلى بيع ما في خزائنه للإنفاق على جنوده وأتباعه.
قتل الأمين

ولقد ضيق طاهر وهرثمة على الأمين الخناق، وفكَّرا فيمن يتسلَّم الأمين ليكون له قصب السبق، وإنه لمن المؤلم حقًّا أن ترى الأمين وهو يُقبِّل أولاده، ومن المؤلم أن تسمعه وهو يقول: «وددت أن الله قتل الفريقين جميعًا، فما منهم إلا عدوٌّ من معي ومن عليَّ، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي!» وقال:
تفرقوا ودعوني / يا معشر الأعوان
فكلكم ذو وجوه / كثيرة الألوان
وما أرى غير إفك / وتُرَّهات الأماني
ولست أملك شيئًا / فسائلوا خُزَّاني
فالويل لي ما دهاني / من نازل البستان؟
وإنه لمن المؤلم حقًّا أن يتفقا على أن يأخذ أحدهما بدنه، والآخر خاتم الخلافة وشاراتها! ومن المؤلم حقًّا أن تُختم حياته بمأساته المُروِّعة.
وبدأت المدينة تتهاوى حتى سقطت أمام جنود المأمون، وتم القبض على الأمين ووضعه في السجن. وفي ليلة (25 من المحرم 198 هـ = 25 من سبتمبر 813م) دخل عليه جماعة من الفرس في محبسه، فقتلوه .
والسؤال الأن هل قتل الخليفة المأمون أخاه الخليفة الأمين؟..