الفرع الرابع

حق المتهم في الدفاع عن نفسه

إن قاعدة افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته، قد وُجدت في الشريعة الإسلامية منذ مدة تزيد على خمسة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن والسنة، وبهذا فقد امتازت هذه الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في القانون الوضعي الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقُررت لأول مرة في المادة 9 من إعلان حقوق الإنسان الصادر عام1789م، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى التشريعات الوضعية الأخرى، حتى أصبحت قاعدة عالمية في القوانين الوضعية كلها.
وتطبيقاً لهذه القاعدة في الشريعة الإسلامية فإن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعى، فعليه أن يثبت وقوع الجريمة من المدعى عليه (المتهم) ومسؤوليته عنها، عملاً بقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ”البينة على من ادعى”، ولا يوجد أي التزام على المتهم من حيث المبدأ لإثبات براءته، فهو في نظر الجميع يعتبر بريئاً حتى يُدان، غير أنه ليس هناك ما يمنع المتهم من المساهمة في إثبات براءته بتقديم الأدلة والبيانات للقضاء التي من شأنها نفي التهمة ودرء المسؤولية الجنائية عنه، أو التعبير عن قيام سبب من أسباب الإباحة، أو انعدام المسؤولية أو أي عذر من الأعذار الشرعية.
وبناء عليه فإن حق الفرد الذي اتهم في دينه وعرضه وسلوكا ظلما كيوسف عليه السلام أن يدافع عن نفسه تجاه من ظلمه، ويرفع صوته جاهرا بالحق مثل قول يوسف عليه السلام في مواجهة الحاكم، ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي يوسف:26.
بل أباح الله تعالى له ما لم يبح لغيره، رعاية لظرفه، وذودا عن حرمته، حين قال الله تعالى: ﴿ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (النساء:148)، ولا يجوز لأحد منع المتهم من الدفاع عن نفسه، فهذا حق طبيعي وشرعي، وقد أعطى الله الحرية لإبليس اللعين ليجادل عن نفسه أمام رب العالمين، ويقول عن آدم: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ الأعراف:12.
كما جعل من حق كل نفس يوم القيامة أن تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ النحل:111.
فحق المتهم في الدفاع عن نفسه من أهم المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة بين الخصوم، كما ان مبدأ حق المتهم في سماع مقاله أمام القضاء، وهو حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، حديث رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ لعلي بن أبي طالب عندما بعثه إلى اليمن قاضياً، فعن علي -كرم الله وجهه- قال بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ إلى اليمنِ قَاضِيًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلاَ عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ فَقَالَ ‏ "‏ إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلاَ تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ ‏‏.‏ قَالَ فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا أَوْ مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ ) أخرجه أبو داود (3582) واللفظ له، وابن ماجه (2310)، وأحمد (636)، والنسائي في (السنن الكبري) (8421) باختلاف يسير.
من هذا الحديث يتضح لنا أنه يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، لأن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قد نهى عن الحكم قبل سماع حجة المتهم، والنهي يُفيد فساد المنهي عنه، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء،
فإنني أقول لسيادتكم أنكم لا تسمحون لنا بالدفاع عن أنفسنا وتكتفون فقط بما جاء على ألسنتنا أمام النيابة والله وحده يعلم أننا برئاء مما هو منسوب لنا وبه نحاكم..
تحرموننا من ابسط حقوقنا وهي الدفاع عن أنفسنا مع أن حق الدفاع عن النفس هو مبدأ حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء، ففي القضية التي تسور فيها الخصمان المحراب على نبي الله داود عليه السلام ليحكم بينهما بالعدل، وكان المدعي قوي الحجة، إذ قال فيما نص عليه القرآن على لسانه:﴿ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ص:23.
وأمام هذه الحجة الظاهرة حكم له النبي داوود عليه السلام دون سماعه لحجة المدعى عليه(المتهم)، كما جاء في قوله تعالى:﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ ص:24.
ولما كان هذا الحكم قد صدر بدون سماع حجة طرفي الخصومة، فإن داود عليه السلام قد شعر بخلل حكمه فسارع إلى الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى:﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ وكان هذا من الله توجيهاً لنبيه داود عليه السلام، وإنذاراً لمن يتولى القضاء بين الناس في الأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بأن الحكم بظاهر حجة خصم دون سماع حجة الخصم الآخر، هو ميل عن الحق وإتباع للهوى يترتب عليه العذاب الشديد يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الكريم:﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ص:26.
ومن ثم يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله. ويطمئن لصدق قوله.
ومن المناسب هنا أن أذكر مرافعة تخيلية لأحد المتهمين لنرى كيف تكون.
----------------
طبقاً لأمر الإحالة في القضبة رقم 4459 لسنة 2015 جنايات حلون المقيدة برقم 321 لسنة 2015 كلي جنوب القاهرة والمقيدة برقم 451 لسنة 2014 حصر أمن الدولة العليا المقيدة برقم 29 لسنة 2015 جنايات أمن الدولة العليا..
وبعد قرار الاتهام وأقوال النيابة طلب المتهم (....) الكلمة بعد مرافعة الأستاذ الفاضل محاميه الاعتباري فقال:
بداية كل الاحترام والتقدير للسيد المحامي الفاضل والذي جاهد إلى استمالة القاضي تمهيدا لإقناعه بحق موكله ،ذلك المحامي الذي يقف في مكان منخفض مرتديا السواد حزنا ليكون قريبا مع من قهرتهم شهوة الانسان ليسمع أناتهم فيرسل الى قلب القاضي صرخات المظلومين.
ومع احترامي للكل فأنا أرى أنه من المناسب في هذا الموقف أن أدافع عن نفسي بلساني أنا..
وهأنذا أقف أمامكم في مشهد من مشاهد المحن، وموقف من مواقف الابتلاء والتمحيص سقت إليه سوقا وأرغمت عليه إرغاما، في زمن انقلبت فيه الموازين وتبدلت فيه القيم.
يجمعني موقف من مواقف الابتلاء، في زمن أصبح فيه الضحية مجرما، والجلاد بطلا، فاتحا يتوج ويوشح.!.
إني لأقف أمامكم في حيرة من أمري، حيرة مستحكمة تدفعني إلى الاستغراب والدهشة، ثم تقودني إلى الاضطراب والقلق.
أقلب طرفي حول رحلي.. ثم أرجع البصر كرتين في سنوات عمري الماضيات، فأستدعي أيامها، وأستحضر مواقفها، وأستنطق أحداثها، بكل أمانة وتجرد، فإذا بي أعرف وأنكر لكني لا أرى فيها لحظة واحدة في مخفر من مخافر الشرطة، ولا أرى فيها وجه قاض في زيه الرسمي، ولا باب محكمة ولا وجه نائب ولا وكيل ...
حتى إذا كنت في بداية العقد الرابع من عمري قالوا مجرم يجب سجنه مدى الحياة:
عجبت حتى غمني السكوت *** صرت كأني حائر مبهوت
أنا أحفظ جيدا قول الإمام علي كرم الله وجهه: " إذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ"..
اللهم إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي ولكن عافيتك هي أوسع لنا.
ومن ثم فأجدني ساخط كل السخط، وغاضب كل الغضب على كل ألوان الظلم وعلى جميع الظالمين وأتباعهم وأشياعهم ﴿ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.الأعراف:146.
رغم استفزاز المواقف، وقسوة الظروف، فإني أريد أن أضبط أعصابي، وأسيطر على عواطفي وأتحدث بالتي هي أحسن ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وإذا كان هناك من استفزازات وتحديات متتالية، قد لا يكون آخرها هذا الشهر الفضيل شهر رمضان الذي يمر سريعاً كسيف البال متعثر الخطو شاحب الوجه واليد واللسان، فهذا الشهر هو الشهر السابع الذي يأتي وأنا في محبسي هذا..سبع سنوات ميلادية من الاعتقال منذ عام 2014 وحتى عام 2020م وثماني رمضانات بالأشهر الهجرية، وإن في النفس لشلالا من الألم المتدفق في حديثي وأثر من ندوب أو أثر من جراح القلب أو بقايا من دموع أو صدى ألم وحزن.
لقد خرجت من مقر عملي كما يخرج الموتى من قبورهم لا أدري إلى أين؟ ولا من أين؟ إلى مقبرة جماعية أم إلى جحيم جديد؟.
وفي محبسي تقابلت مع رفقائي الذين هم في القضية التي نحاكم بسببها كمثلي لا يعلمون شيئا عنها..
والأهم من ذلك أنهم كلهم علماء وأطباء ومهندسون ومدرسون وطلبة جامعيون..
كيف يستقيم في ضميركم أن أمثال هؤلاء أصبحوا بين ليلة أو ضحاها مجرمين..
إن المأساة المكتوبة على شفاهنا ألما للَّا إنسانية المحطمة وحزنا على الكرامة البشرية الممزقة، لقد كنا نحمل في محابسنا خلال الأعوام الستة الماضية من دروب الألم والأسى ما كان يكفي ويغني ويرضي كل من لديه روح للتشفي والانتقام، كل من في قلبه حقد أو ضغينة.
لكن ما توقعنا أن ينابيع الرحمة قد جفت إلى هذا الحد.
ولا أن القلوب والأكباد قد تبلدت إلى هذا الحد.
ولا أن الأحاسيس والمشاعر قد تبلدت إلى هذا الحد.
كنت قد سمعت في صغري حديثا مؤداه:
أن بغيا من أبناء العمومة دخلت الجنة في كلب كان يلعق الثرى من شدة العطش فسقته فشكر الله لها فغفر لها، وأن الصحابة سألوا النبي الكريم صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ وإن لنا في البهائم لأجرا قال: في كل كبد رطب أجر.
لقد علقنا جراحنا من فرط الألم فلم نجد بغيا واحدة يتألم قلبها أو تحرك يدها برحمة.
إنني لا استجدي عطفكم..
فإن كنتم تحاكمونني بحق فأنا أقبل بحكم الحق وإن كنتم تحاكمونني بباطل فأـنا أكبر من أن استجدي الباطل.
هناك أمران يعمقان الجراح
أما أولهما:
فإن المرارة لتتضاعف وتزداد حيرة عندما يؤخذ الإنسان بجريرة غيره ويلبس تهمة لا علاقة له بها .
ولو كان لي في الأمر ناقة أو جمل لهان الخطب ولما تبرأت ولما اعتذرت، بل كان لي رأي آخر وموقف آخر وكلام آخر وأزعم أن عندي من الشجاعة الأدبية ما أستطيع أن أواجه به مثل ذلك الموقف بكل حزم وإصرار وثبات.
وأنا أشهد أن أحاديث النيابة هزيلة هزيلة وأشهد أن أحاديثها كلام أينما توجه لا يأتي بخير وأن أصدق ما يقال فيها قول الحق جل وعلا : ﴿ إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ الفرقان:4..
وأن أحاديثها فاحشة يحرم نشرها وسماعها.
أما ثانيهما:
فعزائي ان كان لي من عزاء ...
بأني بحمد لله لا ثوب غادر / لبست ولا من خزية أتقنع
وأني :
...ما أَهْوَيْتُ كَفِّي لرِيبَةٍ / ولا حَمَلَتْنِي نَحْوَ فاحِشَةٍ رِجْلي
وأَعْلَمُ أَنِّي لم تُصِبْنِي مُصِيبَةٌ / مِن الدَّهْرِ إلاّ قد أَصابَتْ فَتىً قَبْلِي
وأن جيلا من بعدنا سيقرأ ما كتبنا وما تركنا.. إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر، وكل ينفق مما لديه. وللتاريخ إنني أشهد الله وأشهدكم أنني بريء بريء، وأنني استحضر قوله تعالى:
﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا النساء:112...
إنني أطلب من هذه المحكمة الموقرة أن تمتلك الشجاعة الأدبية والأخلاقية أن تعيد إلينا حريتنا المسلوبة .. فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
والسلام على من اتبع الهدى.
وعقب المحامي على قول المتهم بقوله:
(...وبعد كل الذي قاله لكم موكلي وبينه لحضراتكم. فإننا نقبل حكم المحكمة، ومن حقنا أن نقول ما نشاء بدون خجلٍ أو مؤاربة أو حياءٍ.. نعم سنكون في هذه المحاكمة صُرحاء .... أشد ما تكون الصراحة، حتى ولو كانت موجعة للبعض، أو تورم منها أنوف آخرين.. لأننا وحتى هذه اللحظات كنا نعتقد أن صوت العقل سيغلب، وأنَّ المصلحة العليا ستُغلب.. لكن قرت عُيون البعض بتلك المُحاكمة.. وقُرت عيون آخرين بوجود موكلي خلف القضبان، فلتكن المُحاكمة إذاً هي نهاية المطاف.. وليكن حكمكم هو غاية العدل ومنتهى الإنصاف، ولتكن مشيئة الله هي العليا.. ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليحي من حيَّ عن بينه، ويهلك من هلك عن بينه. .وما يحز في النفس هو التحقير من شأننا كمحامين ندافع عن الحق ونبينه لكم..
ونتساءل فيما بيننا ما الذي جعل العلاقة بين القضاء والمحامين وهم أبناء رحمٍ واحد وغاية واحدة، تصل إلى هذا المنحنى وذلك المنعطف الخطر؟.
نحن لم نتسلل إلى محرابكم.. ولكننا أصحاب حقٍ وأصحاب قضية وأصحاب رسالة.. وما آتينا نُمارس هذه الرسالة إلا بمقتضى القانون ومن منطق العدالة.. فلسنا دخلاء أيها السادة وليس الأمر منوط بالقضاة وحدهم.. فالعدالة لا تستقم على قدمٍ واحدة. ونحنُ القدم الأخرى.. والقول بغير ذلك يهدم ميزان العدالة ويقوضها.. أليس للميزان كفتين؟! ولئن كان الله خلق الإنسان من عينين، وشفتين، وأذنين، وكفين، وقدمين. فقد خلق الإنسان بقلبٍ واحد.. ولسانٍ واحد..
فأنتم أيها السادة القلب، ونحنُ اللسان، ومخطئ من ظن يوماً أن يضن علينا بالكلام، وأُقر مطمئناً أن طبيعة عمل المحامي وخبرته المكتسبة من ممارسة المهنة، نراه يرجو ويتوسل ويترافع علناً ويكتُب مذكراته.. ويؤكد في كل كلمة ثقته بعدالة قاضيه..
غير أن بعض القضاة يظهرون عدم الاكتراث بما نقول.. ويعرض عنا بصورة فيها امتهان لكرامتنا.. ونلتزم في ذلك غاية اللياقة والأدب.. ونطوى الصدر عن ألمٍ دفين.. ثم يصدر القاضي حكمه.. وقد يكون خاطئًا.. فإذا ما طَعَنّا على ذلك، نذكر في طعْننا تأدباً ورقاً أن الحكم قد أخطأ، ولا نقول أن القاضي هو الذي أخطأ.. نحنُ اللذينَّ ننتظر لساعات لبدء الجلسات.. نحنُ اللذينَّ نقف إجلالاً لكم حال دخولكم القاعة.. ونحنُ اللذينَّ نقف احتراماً عند انصرافكم.. ونحنُ اللذينَّ لا نتحدث بين أيديكم إلا بإذن، ولا نصمت إلا بإذن.. نحنُ اللذينَّ تعلمنا من أسلافنا العظام الإنحناء في محرابكم تقديساً للعدالة.. ونحنُ اللذينَّ لا نخاطبكم إلا بالاحترام الكامل..
واليوم نحرم من حق الدفاع عن موكلينا بالأمر؟ كيف تستقيم أجنحة العدالة؟..
نحن نتمسك بمرافعتنا السابقة ونصر عليها. تأسيسا لأحكام القانون.
هنا أذعنت المحكمة لطلب الأستاذ المحامي وقبلت كل الدفوع التي تقدم بها المحامون والبالغ عددهم خمسة وستون محاميا..
والحقُ أقول لكم أنه إذا كان في الحكم على موكلي شفاءٌ لما في الصدور فاحُكموا عليه، وإذا كان ميزان العدالة سيستقيم بالحكم عليه فاقضوا عليه. وإذا كان الحكم عليه قرباناً للعدالة وإرضاءً للآلهة فإننا نقدمه مختارين طائعين. والله ولي التوفيق.)..
وهذه مرافعة تخيلية أخرى:
يقف المتهم في مواجهة القاضي الظالم في حكمه وقد ألقى في وجهه سهماً من سهام المظلومين فقال:
الْحَمْدُ للهِ رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، هو الحكمُ العدل، صاحبُ الجودِ والفضل، إنْ أثابَ فبفضلهِ وإنْ عاقبَ فبعدله، أحمدهُ سبحانهُ بما هوَ لهُ أهلٌ مِنَ الحمدِ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
ويقول تعالى لرسوله الكريم ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ الشورى: 15.
ويقول سبحانه وتعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة: 8]، وتستمر الآية ونستمر معها فيقول ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8] المائدة.
والسؤال.. لماذا يتم حبسي مع التجديد؟..
بالرغم من أنه في القانون الجنائي المصري نجد أن مدة الحبس الاحتياطي في أحوال الجنايات يجب ألا تزيد على سنتين، فالحبس بحسب الأصل هو عقوبة لا يجوز توقيعها على الإنسان إلا بمقتضى حكم قضائي واجب النفاذ، لأن الهدف من الحبس هنا هو سلب حرية المتهم في أثناء مدة التحقيق.
وأنه طبقاً لما جاء في المادة 129 من قانون العقوبات والتي جعلت الحد الأقصى للحبس الاحتياطي في مواد الجنح ستة أشهر، وفى مواد الجنايات ثمانية عشر شهرا، وسنتين في حالة ما إذا كانت العقوبة المقررة هي السجن المؤبد أو الإعدام، ومع ذلك وطبقاُ لمخالفة القانون تم تجديد حبسي سنوات وسنوات وسنوات بلغت سبع سنوات فنحن الآن في العام 2020م.
وهنا ومن داخل قاعة هذه المحكمة..
ارفع التماسي إلى قاضي السماء.. وذلك من خلال سورة الفاتحة والتي هي نبراسي ومنهج حياتي..
ففاتحة الكتاب نظرا لأهميتها اسماها رب العزة عز وجل بالصلاة وهي عبارة عن طلب مقدم من العبد إلى ربه ومولاه العادل قاضي السماء يطلب منه طلباً محدداً. ترى ما هو؟..
تأملوا:

عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
مَن صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بأُمِّ القرآن، فهي خداجٌ -ثلاثًا- غير تمام، فقيل لأبي هُرَيرَة: إنَّا نكونُ وراءَ الإمام، فقال: اقرأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:
قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بَيني وبَين عبدي نِصفين، ولعَبدي ما سأل،
فإذا قال العبدُ ﴿ الحمدُ لله ربِّ العالَمين، قال الله تعالى: حمَدني عَبدي،
وإذا قال ﴿ الرَّحمن الرَّحيم، قال الله تعالى: أثْنَى عليَّ عبدي،
وإذا قال ﴿ مالِك يومِ الدِّين، قال: مَجَّدني عبدي، (وقال مرَّة: فوَّض إليَّ عبدي)،
فإذا قال ﴿ إيَّاك نعبُدُ وإيَّاك نستعين، قال: هذا بَيني وبَين عبدي، ولعَبدي ما سأل،
فإذا قال ﴿ اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ صِراطَ الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين، قال: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ.
دققوا جيدا في وعد الله تعالى للسائل قال: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ.
فالفاتحة طلب مقدم من العبد إلى الله العادل سبحانه وتعالى فبعد أن يحمده ويمجده ويثني عليه سبحانه وتعالى..
عندئذ يتقدم بطلبه وكله يقين بأن الله سبحانه وتعالى قد أجاب دعوته..
فحينما يقول ﴿ اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ يجيبه سبحانه وتعالى بقوله: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ.
فإذا أحسن العبد نيته وهو يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى مستشعراً قوله تعالى: ولعبدي ما سأل..
يجعلنا نتوقف كثيراً عندها.. ولا نمر عليها مرور الكرام ونظراً لأهميتها وصعوبتها فإننا نطلب العون من الله على بلوغها..
ولأننا نقول:
﴿ اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ يتعين علينا أن نعرف بوجود ثلاثة فقط وحدهم عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ...وهم:
1ـ الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍهود : 56 .
2ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ الزخرف : 43
3ـ من يأمر بالعدل: ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ النحل : 76
فالبند ثالثاً يضع الآمر بالعدل مع الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم..
انتبهوا: لم يقل سبحانه وتعالى ومن يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ..... وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ..
ولكنه قال عز من قائل: وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..... وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ..
وفارق كبير بين من يحكم بالعدل.. فلا يجور.
وبين من لا يحكم بالعدل فيقيض الله سبحانه وتعالى له من يَأْمُرُهُ بِالْعَدْلِ.....
فالذي يأمر بالعدل يفعل هذا وكله يقين أن الله حافظه وحاميه لأنه هو القائل ولعبدي ما سأل.
فمن يجاهر بكلمة الحق في وجه من يتوسم فيه أن يحكم بالعدل، موقعه مع الله ورسوله فما أعظمها من معية..
ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ).
وهذه هي الرسالة التي يجب أن يفهمها كل مسلم يقرأ الفاتحة سبع عشرة مرة كل يوم ويقول في ختامها:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ الفاتحة: 6..
أي اللهم يسر لنا سبيل الوصول إلى مرتبة ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..
وهأنذا وامتثالا لقول ربي ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..
إنني أشهد الله العلي العظيم وأشهدكم أنني بريء بريء من كل ما نسب إليّ، وأنني استحضر قوله تعالى:
﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا النساء:112.
ولما سئل ابن تيمية رحمه الله عن دليله في قوله (إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة) أجاب من سور هود: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.
وقد وقعت على دليل آخر من سورة القصص: ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ.
فإن كنتم تحاكمونني بحق فأنا أرضى بحكم الحق..
وإن كنتم تحاكمونني بباطل فأنا أكبر من أن استجدي الباطل لأنني في المكان الخطأ..
يا رب إني، مغلوب مبغيّ عليّ مظلوم، قد قلّ صبري وضاقت حيلتي، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهها عنّي، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمتها، وخذلني من استنصرته من عبادك، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك ً وغدر بي وطعنني القريب الصديق، اللهم لا تفتني بالقنوت من دعاءك.. ولا تفتن الظالم بالأمن من عقابك.. فيصر على ظلمي ويمنعني حقي.. اللهم وعرفه يا إلهي ما أوعدت الظالمين من عقابك.. وعرفه عما قليل ما وعدت المظلومين من نصرتك..
وعلى الظالمين تدور الدوائر..
والسلام على من اتبع الهدى.