المطلب الأول

مبــدأ قانــونيٌّ (شخصيَّة العقـــــوبة)
هناك مبدأ قانوني في شرائع من قبلنا، ومُقرٌّ في شريعتنا، ومازال معمولاً به في الأنظمة العقابية.. وهو:
(شخصية العقوبة)
أي: لا يتعدى أثر العقوبة إلى غير الجاني … (قال معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعا عنده إنّا إذا لظالمون) يوسف / 79 ..
وهذا أصل من أصول الشريعة الغرَّاء، ورد في شريعتنا متفِقاً مع ما ورد على لسان سيدنا [يوسف]..
يقول تعالى :
(ولا تكسب كلّ نفسٍ إلاّ عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) المائدة / 164 .
ويقول تعالى :
(وكل إنسان ألزمنـاه اليوم طائره في عنقيه ونخرج له يوم القيـامة كتاباً يلقاهُ منشورا، إقرأ كتابك بنفسك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) الإسراء / 14 ..
فهذا أحسن تعبير عن [ شخصيَّة العقوبة ] !!..
ويتجلى هذا الأمر بوضوح في شخصية (شخصيَّة العقـــــوبة) والتي تتجلى في قول الملك اثناء التحقيق:
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ)...
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) كي أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
(قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) البال: هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به: أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصي إليه ومثولي بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذ لا أود أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثي فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث في صميم التهمة.
لا تنس أن يوسف عليه السلام كان رهن الاعتقال ولم توجه له تهمة..
(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسني منه سوء.
وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
(1) جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر.
وقد ورد في الصحيحين مرفوعا « ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي »، وفي رواية أحمد « لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر ».
(2) عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
(3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
(4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهي السبب في تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.
(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » وقوم موسى: « فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ » أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف: إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة - جمعهن وسألهن: ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه: هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب في إلقائه في السجن مع المجرمين.
(قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوءه لا قليلا ولا كثيرا.
انتبه للإجابة الدبلوماسية منهن..إن الملك لم يسألهن عن اخلاق يوسف عليه السلام حتى تكون تلك الإجابة ولكنه سألهن عن تصرف بدر منهن تجاه يوسف وهو اتهام مباشر لهن..
هنا قامت امرأة العزيز وبكل شجاعة قالت:
(قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) حصحص: ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق في هذه القضية كان في رأى من بلغهم - موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل منا حصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى، وهأنذا أشهد على نفسي شهادة إيجاب.
(أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودنى، بل استعصم وأعرض عني.
(وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله حين افتريت عليه: هي راودتنى عن نفسي، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال: (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ولم يعرض لشأنها.
وفي هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب.
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي ذلك الاعتراف مني بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم إني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
(وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكربا، حتى شهدنا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء.
وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنساني في عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت في خاتمة المطاف بذنبها في مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.
مذكرة بدفاع
دائـرة جنح مستأنف ممفيس مدينة الاله رع - منف اول عاصمة مركزية وموحده يعرفها التاريخ والتي تعرف اليوم بميت رهينه جنوب مركز البدرشين - .

نبي الله يوسف عليه السلام / متهم

ضــــــــــد
النيابة العامة ممثلة الاتهام
في القضية رقم .......... لسنة جنح مستأنف (....) والمحدد لنظرها جلسة يوم الثلاثاء الموافق 24 / 12/ 2019 .
بأسباب الطعن بالاستئناف على الحكم الصادر بتاريخ / / 1900 ق.م عصر سونسرت الثاني من الأسرة الثانية عش من محكمة جنح
فى القضية رقم (بدون)/ جنح المقضى فيها غيابيا بحبس المتهم تسع سنوات .
االوقائع والموضوع
إيمانا من الدفاع ببراءة ساحة المتهم من ثمة ما يشوبها من عمل مخالف والثابت علي ما جري عليه قرار الاتهام وحرصا منا كذلك علي ثمين وقت عدالة المحكمة نعرض للوقائع بإيجاز في نقاط عدة :-

إن المتأمل في سيرة يوسف عليه السلام وإخوته يلاحظ أمورا متعددة وعلوما كثيرة وبالأخص أن هناك مجموعة من القمصان المنسوبة ليوسف.

أحدها الذي جاء به إخوته وعليه دم كذب.

وقمصان أخرى كان يرتديها يوسف حين كان عند أبيه وفي بيت العزيز.

ولعل القميص الأهم من بينها هو الذي ألقوه على وجه أبيه فارتد بصيرا.

علاقة يوسف بقميصه علاقة تستحق التأمل..
1- رأيناه يوم أن كاد له إخوته بسوء..
(وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) يوسف: ١٨.
وطبعاً هذا القميص احتفظ به أبوه..
2- ومع امرأة العزيز
(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يوسف: ٢٥.
وطبعاً هذا القميص احتفظت به هيئة المحكمة كدليل إدانة..
3-ومع أبيه
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) يوسف: ٩٣.
وطبعاً هذا القميص من الواضح أنه هو القميص الذي كان يرتديه ساعتها فهو بمثابة البشارة..