

-
فكيف يكون الباقين هم من غرقوا ؟ وبنفس الوقت يكون الباقين هم من نجوا؟
إذن فما الصحيح وكيف نحل هذا الإشكال ونوضحه خاصة وأن العلماء وبكل أسف لم يتدبروا
قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ …… ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}بالشكل الصحيح
ولذلك أوقعوا انفسهم بالخطأ عن غير قصد.
نَجَّيْنَاهُ و أَنْجَيْنَاهُ ..
ولذلك وحتى نتعرف على الأصح من القول علينا بالرجوع إلى سورتي الصافات والشعراء
من أجل تمحصهما وتدبرهما من جديد.
ففي سورة الصافات يقول الله تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)}الصافات.
وفي سورة الشعراء يقول الله تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)}الشعراء.
إذن كيف نميز بين التعبيرين: نَجَّيْنَاهُ و أَنْجَيْنَاهُ .. وعلى ماذا نستدل بهما ؟.
نلاحظ أن القرآن استعمل كلمة (ونجّيناه)في سورة الصافات ولكن استعمل تعبير فـ (أنجّيناه)
في سورة الشعراء فهل يا ترى يوجد فرق بين الكلمتين كان قد تسبب في عدم وضوح الرؤية بالنسبة لمعنى الباقين.
وهنا نستعين بالدكتور الكريم فاضل السامرائي أدام الله في عمره وحفظه ورعاه فهو
يرى بأن القرآن الكريم كثيراً ما يستعمل (نجّى) للتلبّث والتمهّل في التنجية والتي تكون
المعاناة فيها على فترة زمنية مُطولة.
ويستعمل (أنجى) للإسراع في التنجية – التخليص قبل المعاناة، ويقول فـ (أنجى) أسرع من (نجّى)
في التخليص من الشدّة والكرب.
وبالتالي فإذا تم إنقاذ شخص وهو في محنة أو بعد أن كان قد وقع في خطر ما وبعد معاناة
تم تخليصه منه أي بعد زمن يستعمل فعل (نجّى)وتكون التنجية من العذاب والمكروه
الواقع ومثال على ذلك نستمده من قوله تعالى:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)} الصافات.
حيث هنا استعمل الله جل وعلا تعبير(ونجّينا – هُما)فكانت تنجية من عذاب وقهر كانا
واقعَين على بني اسرائيل حيث كانوا في عذاب واقع من أسر وعبودية وقهر تحت حكم فرعون
على مدى مئات السنين..وكذلك كان القول في نوح عليه السلام حيث لبث في قومه 950 سنة
وهو في المشقة والعذاب.
قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}العنكبوت/14.
وقال تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} نوح.
وقال تعالى:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}نوح.
إذن فاحتمل في حقه ومن آمن معه قول:{نجّينا} فقال تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77 )}الصافات.
ولنا ملاحظة أُخرى تدعم هذا التوجُّه التفسيري وهو أن (تنجية)نوح لم تكن من الطوفان
حيث لم يقل الله سبحانه وتعالى: {ونجيناه وأهله من الطوفان}بل قال تعالى:
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}سورة الصافات/76، وهذا نسمع له أصداء في تنجية
بني إسرائيل من المعاناة والقهر (أي الكرب)على يدي الفراعنة في قوله تعالى:
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}الآية 115 من نفس السورة وكلاهما
اشتركا في النجاة (من الكرب العظيم) لذلك فالكرب وهو الغم والهم الشديدان اللذان
يأخذان بالنفس ومصدرهما المعاناة المستمرة والتي كانت بطيئة وشديدة وامتدت لمئات السنين
في كلا الحالتين هو ما حدد تفسير الآية بالإضافة إلى قول نجينا بدلاً من أنجينا.
أما إذا استُعمِل لفظ (أنجينا)فيكون إنجاء قبل وقوع أي مكروه أو عذاب كإنقاذ
شخص من محنة قبل أن يتعرض لها..
فالإنجاء قبل وقوع العذاب أو المكروه أو الأذى وكذلك فلقد أنجى الله نوحا ومن معه في الفلك
قبل حدوث الطوفانمثال على ذلك كما في قوله تعالى : {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)}الشعراء.
إذن فكانوا بأن حُملوا على سفينة النجاة وهنا أتت ثُم لتوضح التراخي بالزمن أي بعد
أن لجأ نوح ومن معه للفلك بزمن أي أصبحوا في مأمن حدث الفيضان ومن ثم أغرق الله الباقين من قومه
وكذلك فلقد استعمل الله سبحانه تعالى أنجينا في الحديث عن إنجائه لموسى وبني إسرائيل قبل أن يدركهم فرعون.
فقال تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}البقرة/ 50.
وكذلك أتى القول نفسه عند حديثه عن لوط قبل أن يُهلك قومه،فقال تعالى :
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَكَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}الأعراف.
وقال تعالى : {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ
وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(82)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83)} هود.
إذن فلقد كان بأن نجّى الله نوحا ومن حمل معه من المؤمنين من المعاناة والشدة التي أوقعها
عليهم قومه فلجئوا إلى الفلك ثم من بعد ذلك أنجاهم الله من الطوفان فلم يلحقهم أذى
ومن ثم أغرق الله الباقين أو الآخرين وبالتالي فيكون بعد أن نجّاهم الله من ما كانوا
يتعرضون له من قومه من أذى –{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } –
أي: نجّاهم من المعاناة والشدة ولا تتحدث الآية الكريمة عن تنجيتهم من الغرق لأن الطوفان
لم يكن قد حدث بعد وبالتالي فالباقين هُم من أبق إلى الفُلك، وأبق هنا بمعنى لجأ واستتر أو هرب،
والتأبق في اللغة هو اللجوء، وتأبق أيضاً أي استخفى وتوارى،ولتوضيح ذلك أكثر
نأخذ مثال على ذلك قصة يونس وفيها كانقوله تعالى:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)}الصافات.
فذرية نوح هم الذين خصهم الله في هذا الذكر وهُم الباقين وهي جمع باق كما قلنا،
والباق هو من أبق إلى الشيء وهنا هو من لجأ إلى الفُلك، وكما نُلاحظ فلقد أتى الحديث
عن ذرية نوح على أنهم الباقين قبل بدء الحديث عن الغرق ولذلك قال نجيناه أي من الكرب ولم يقُل أنجيناه ..
فلابد إذن وأن يكون المعنى هو اللجوء أي لجوء ذريته إلى الفلك كما في قصة
يونس ولجوءه للفلك، وأتت الفائدة من {وجعلنا ذريته هم الباقين}حتى تبين لنا بأن الذين
لجئوا إلى الفلك هم من ذريته من أولاده الشرعيين.
وعليه فهذه الآية الكريمة {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ
مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} الأنعام/133، يُكافئ مضمونُها قوله:
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} فاطر/16،
و {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} النساء/133.
ويصبح قوله تعالى:{وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} ،
ويقصد: كما أنشأكم من ذريّة قومٍ آخرين وهم آباؤكم من قبلكم كذلك قادرٌ أن
يهلككم ويبقي من صلح من ذرّياتكم الصالحين ليستخلفهم من بعدكم في الأرض ولا يكونون أمثالكم.
تصديقاً لقول الله تعالى:
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}محمد/38
فأمّا البيان الحقّ لقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء}.
فيقصد خلقاً جديداً من ذرياتهم. تصديقاً لقول الله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَـكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ(58) ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَـلِقُونَ (59)نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـلَكُمْ}الواقعة.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Habeebabdelmalek في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 8
آخر مشاركة: 14-07-2016, 05:25 PM
-
بواسطة *اسلامي عزي* في المنتدى فى ظل أية وحديث
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 19-09-2015, 12:26 PM
-
بواسطة الياس عيساوي في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 23-05-2013, 06:16 PM
-
بواسطة جوالمصرى في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 21-06-2010, 04:39 PM
-
بواسطة البريق في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 28-01-2008, 01:27 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات