بدء القتال :
1 – خرج طلحة بن أبي طلحة وكان بيده لواء المشركين فطلب المبارزة مراراً فلم يخرج إليه أحد، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه فقطع رجليه فوقع على الأرض وبدت عورته فرجع عنه ولم يجهز عليه[1].
2 – اندفع أبو دجانة وفي يده سيف النبي e ، وعلى رأسه عصابة الموت فجعل لا يلقي أحد إلا قتله ، و شق صفوف المشركين ثم رأي إنسانا يحمس الناس تحميسا شديدا ، فلما حمل عليه السيف ولول[2] فإذا امرأة هي "هند بنت عتبة" تولول ، فارتد عنها أبو دجانة مكرماً سيف النبي e أن يضرب به امرأة فيقول أبو دجانة :" فَأكْرَمْت سَيْفَ رَسُولِ اللّهِ e أنْ أضْرِبَ بِهِ امْرَاةً "[3].
3 – عندما نزل الرماة من جبل أُحُدٍ بعد أن حاقت الهزيمة بقريش وبدأت الفوضى تعم العدو وبدأوا في الهرب نزلوا لجمع الغنائم فلتف حول الجيش المسلم "خالد بن الوليد" واستطاع فتح ثغرة وكانت أعظم المصائب حصار المشركين لرسول الله e وانتشار بنبأ استشهاده وقع هذا النبأ كصاعقة أنست جميع المصائب السابقة . و التف حول الرسول e جدار حصين من اللحم والعظم من المسلمين الذين سمعوا صوته قبل وصول الأعداء إليه . فكم من امرأة تحمل في يدها قرب الماء أو ضماد[4] الجراحي خرجت لسقي المسلمين ومداواة جرحاهم أسرعت لنجدة الرسول e . كانت أم عمارة على رأس هؤلاء النسوة تسقي المسلمين وتضمد الجرحى كان المنظر الذي رأته يجمد الدم في العروق ... كان الحصن البشري المكون من اللحم والعظم حول الرسول e يتساقط شيئا فشيئا والأيدي الخائنة تتقدم نحوه خطوة خطوة .كان موضحا أن المستحيل الوصول إلى الرسول e قبل أن يقطع هذا الحصن المكون من اللحم والعظم أشلاء وقطعا ... كان كل سيف حاقد يرفع من أجله ، وكل سهم خائن يرمي وكل رمح يصوب نحوه ولكنها جميعها كان يصطدم بجسد مؤمن من المؤمنين المحيطين به ، وجاءت لحظة لم يبق هناك ذراع لم تبتر أو رأس لم يقطع وبدأت جماعة من المشركين الخائفين يتقدمون نحوه ، واستشهد كثير وهم يحاولون شق طريقهم ، واستطاع المشركون أن يصلوا بالقرب من النبي e . فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورَبَاعِيَته [5] وشجه[6] في وجهه فأثقله وتفجر منه الدم [7] ثم قال رسول الله e " ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أُحُدٍ إلا رأيتها تقاتل دوني" [8]، كانت أم عمارة قد أتت لمداواة الجرحى ولكن عندما اشتد الخطب انقلبت كالأسد الكاسر وبينما هي تقاتل عن الرسول e رأت ابنها وقد بترت ذراعه بضربة سيف ، أسرعت نحوه وربطت جرحه ثم قالت له " اذهب فقاتل أمام رسول الله " ثم رجعت إلى مكانها ، كانت تقاتل قريبة من الرسول e حتى أنها تسمع همسه ثم أصيبت بجرح غائر وعميق في ظهرها ، كانت قد أرسلت ابنها للقتال وهاهي تقاتل بالقرب من الرسول e ، فقال لها الرسول e " من تطيق ماتطيقين ؟ قالت له أم عمارة رضي الله تعالى عنها ادع الله أن نرافقك في الجنة فقال" اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة "[9]فلما سمعت بدعاء الرسول e لها قالت بأنها تستطيع أن تقاتل أمامه حتى يوم القيامة [10] وقد جرحت رضي الله عنها اثني عشر جرحاً مابين طعنة بالرمح وضربة بسيف . فهذه حقا شجاعة مدهشة لامرأة وقد تحملت ما أصابها من الجراح في سبيل الجهاد، وهو ما يعجز عن تحمله الرجال فضلا عن النساء [11] .
4 – لما أصيب الرسول e ودخلت حلقتان من المغفرة [12]في وجنته e وهشمت البيضة[13] على رأسه وسال الدم على وجهه ورموه بالحجارة حتى سقط في حفرة واحتضنه طلحة بن عبيد الله ، حتى استوي قائما ، وانتزع أبو عبيدة عامر بن الجراح الحلقتين اللتين كانتا غاصت في وجنته e وعضى عليها حتى سقطت شفتاه . وامتص مالك بن سفيان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الدم من وجنته[14] e منه ازدرده[15] فقال عليه الصلاة والسلام " من مس دمه دمي لم تصبه النار "[16] فاستشهد في هذه الغزوة .ولما أصيب رسول الله قالوا : لو دعوت عليهم فقال : " إنِّي لَمْ أبْعَثْ لَعَّانًا ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا ، وَرَحْمَةً . اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَانَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " [17] فاعتذر لهم وتضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم أو من ذريتهم من يؤمن وهذا غاية الحلم[18]
5 – انتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله e قال فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ ( قوموا ) فموتوا على ما مات عليه رسول الله e ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل وبه سمي أنس بن مالك [19]ويصدر أوامر جديدة إلى أصحابه الذين لم يفهموا سر أوامره الأولى ، ويتبع استراتيجية جديدة ، من رجل ينظر لي ما فعل" سعد بن الربيع" في الأحياء هو أم في الأموات فقال رجل من الأنصار أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق قال فقلت له إن رسول الله e أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات قال أنا في الأموات فأبلغ رسول الله e عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم e وفيكم عين تطرف قال ثم لم أبرح حتى مات قال فجئت رسول الله e فأخبرته خبره. [20]
6- " يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله " كانت هذه الصيحة بمثابة البعث بعد الموت في يوم أُحُدٍ ، وهنا تم الحشد مرة أخرى .... التفوا حوله مرة أخرى ، اقسموا بأنهم لن يتركوه بعد الآن .... ووقف الرسول e والقائد الكبير بزمام الأمور بيده مرة أخرى ، وليبدأ بتطبيق استراتيجية أخرى لا تؤثر فيها الأخطاء السابقة التي وقعت ، لذا انسحب بهدوء مع المسلمين المحيطين به إلى خلف جبل أُحُدٍ ليهيئ هناك خطة جديدة [21].


( [1] ) سيدنا محمد e [1 /297]

( [2] ) الوَلْولَة : صَوْتٌ متتابع بالوَيْل والاستغاثة . وقل : هي حكاية صَوْتِ النائحة النهاية في غريب الأثر (5/ 508)

( [3] ) السيرة النبوية لابن هشام ، اسم المؤلف: عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد الوفاة: 213 ، دار النشر : دار الجيل - بيروت - 1411 ، الطبعة : الأولى ، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد-ج 4 ص 16-معرفة الصحابة ، اسم المؤلف: لأبي نعيم الأصبهاني الوفاة: 430 ، دار النشر : ج 3 ص 1436.

( [4] ) ضماد ، وهو الدواء الذي يضمد به الجرح ، وجمعه ضمائد[تاج العروس من جواهر القاموس 8/ 313]

( [5] ) الرباعية السن التى بين الثنية والناب [الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 105] إحدى الأسنان الأربعة التي تلي الثنايا، بين الثنية والناب[جوامع السيرة ص: 160] وهي أربع رباعيتان في الفك الأعلى ورباعيتان في الفك الأسفل[دلائل النبوة للبيهقي 3/ 231] والمراد: أنها كسرت فذهبت منها فلقة ولم تقلع من أصلها (انظر: فتح الباري 7/366)[مرويات الإمام الزهري في المغازي 1/ 346]

( [6] ) شج : جرح غيره[دلائل النبوة للبيهقي 2/ 87] تَشُقُّ الجلد حتى يَظْهرَ منها الدمُ [النهاية في غريب الأثر 2/ 332]

( [7] ) محمد النور الخالد / محمد فتح الله كولن ج 2 ص 74

( [8] ) أنساب الأشراف ، اسم المؤلف: أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (المتوفى : 279هـ) الوفاة: 279 ، دار النشر : ج 1 ص 142-سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ، اسم المؤلف: محمد بن يوسف الصالحي الشامي الوفاة: 942هـ ، دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1414هـ ، الطبعة : الأولى ، تحقيق : عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض -ج 4 ص 202

( [9] ) سير أعلام النبلاء ، اسم المؤلف: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي أبو عبد الله الوفاة: 748 ، دار النشر : مؤسسة الرسالة - بيروت - 1413 ، الطبعة : التاسعة ، تحقيق : شعيب الأرناؤوط , محمد نعيم العرقسوسي ج 2 ص 281

( [10] ) محمد النور الخالد . / محمد فتح الله كولن ص 78 - 79

( [11] ) سيدنا محمد e [1 /304]للشيخ / محمد رشيد رضا.

( [12] ) المِغْفَرُ: زَرَدٌ ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة في الحرب. وهي تأخذ أشكالًا في الصناعة موصوفة في لغة العرب.[نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ص: 103]

( [13] ) البيضة : الخوذة التي يغطي بها المحارب رأسه[دلائل النبوة للبيهقي 3/ 292]

( [14] ) الوجنة : أعلى الخد[دلائل النبوة للبيهقي 3/ 277]

( [15] ) امتصّ ورضع ، ازدرد : ابتلع ، (النهاية) ج 4 ص 353[إمتاع الأسماع بما للنبى من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع 1/ 153]

( [16] ) تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل ، اسم المؤلف: أبي القاسم علي بن الحسن إبن هبة الله بن عبد الله الشافعي الوفاة: 571 ، دار النشر : دار الفكر - بيروت - 1995 ، تحقيق : محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري ج 20 ص 385- الروض الانف(م) ، اسم المؤلف: السهيلي(م) الوفاة: 581 ، دار النشر : ج 3 ص - 265الفتح السماوي ، اسم المؤلف: المناوي الوفاة: 1031 هـ ، دار النشر : دار العاصمة - الرياض ، تحقيق : أحمد مجتبى289 ج 1 ص 265.

( [17] ) (صحيح) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم 3477,6929، وأخرجه مسلم في صحيحه حديث رقم 1794، وأخرجه أبو داود في سننه حديث رقم 1622، وأخرجه النسائي في سننه حديث رقم 1580,2508,2515، وأخرجه ابن ماجه في سننه حديث رقم 4025، وأخرجه أحمد في مسنده حديث رقم 3281,3600,4047,4096، 4319.

( [18] ) سيدنا محمد e [1 /307] محمد رشيد رضا .

( [19] ) السيرة النبوية لابن هشام ، اسم المؤلف: عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد الوفاة: 213 ، دار النشر : دار الجيل - بيروت - 1411 ، الطبعة : الأولى ، تحقيق : طه عبد الرءوف سعدج 4 ص 32

( [20] ) سيرة ابن هشام [2 /94] الروض الأنف [3 /280] القول المبين في سيرة سيد المرسلين [ص 250]

( [21] ) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء [2 /65]