بسم الله الرحمن الرحيم

طاووس اليماني- رضي الله عنه
من فقهاء المدينة المنورة ومن عظماء التابعين
\"أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان [ ] يمان، والحكمة يمانية\" (حديث صحيح).
هو أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان، أحد فقهاء المدينة السبعة الكبار ومن عيون التابعين وأعمدتهم، تربى على يدي الصحابة، وتلقى من المعين الصافي يقول: \"أدركت خمسينًا من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -\".
والحق أن الإسلام تفرد بصنع الرجال الذين يعمرون الأرض ويقومون بدور الخلافة وأداء الأمانة التي كلفهم الله بها، اهتم الإسلام بالإنسان نفسًا وعقلاً وروحًا، ومالاً ونسلاً، وأحاطه بسياج دقيق من التكاليف التي تقيمه بشرًا سويًّا قادرًا على السعي على ظهر الأرض وقلبه موصول برب الأرض والسماء، ويتعامل مع الناس ولا يغفل عن رب الناس.
كل أمم الأرض اليوم تسعى لرفع مستوى معيشتها، وتجِدٌّ وتجتهد في ذلك، وهذا أمر لا بأس منه، لكن الغريب أن يكون كل سعي الإنسان موجه لهذا الهدف، والمسلم يرفض أن يكون هذا هو الغاية من الحياة، فذلك هدف صغير تافه، وهبوط بالإنسان وقيمته، وعبث يترفع المسلم عنهº لأنه يؤمن بما هو أشمل وأعم من ذلك قال - تعالى -: {وَمَن أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَّشكُورًا} (الإسراء: 19).
إن هذا الدين العظيم فتح للإنسان الطريق إلى الأفق الأعلى، وواقعنا التاريخي يبرز لنا شخصيات ووقائع، تحكمها عقيدة وتصور، ولم يعد الإسلام مجرد نظريات، ولا مجموعة إرشادات ومواعظº إنما عاد نماذج إنسانية تعيش، ووقائع عملية تتحقق، وسلوكًا وتصرفات تشهدها العين، وتسمعها الأذن، وتترك آثارها في واقع الحياة.

لقد بلغت الدقة والخشية من الله- عز وجل - عند \"طاووس\" أنه كان يحاسب نفسه على أنين المرض، يعتبره كلامًا يحاسب عليه، فيقول- رضي الله عنه-: \"ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصى عليه حتى أنينه في مرضه\"، وهذه غاية الشفافية والدقة في المقاييس التي أقامها لنفسه في مراقبة الله- عز وجل - قال له أحد الصحابة: \"ادع الله لنا، قال: ما أجد في قلبي خشية فأدعو لك\"، ومن جميل حسه المرهف هذا القول الجميل: \"إن الملائكة [ ] ليكتبون صلاة بني آدم: فلان زاد فيها كذا وكذا، وفلان نقص كذا وكذا، وذلك في الخشوع [ ] والركوع\".
يقول الزهري مرة لسفيان: \"لو رأيت طاووسًا علمت أنه لا يكذب\".
وكان يقوم الليل، ولا ينام السحر [ ] قط، وكان يحض على قيام الليل، فيقول: \"لا رجل يقوم بعشر آيات من الليل فيصبح قد كتب له مائة حسنة، أو أكثر من ذلك؟ \"، وكان يرى أن قيام الليل [ ] أمر طبيعي لا يهمله إنسان، فإذا عرف في الناس من ترك ذلك قال متعجبًا: \"وهل ينام السحر [ ] أحد؟ \"، وكان طاووس لا يقبل عطاءً من أحد، ولم يستطع أحد أن يستميله من هذا المدخل.

حدَّث النعمان الصنعاني: أن محمد بن يوسف، أخا الحجاج [ ] بن يوسف، بعث إليه بسبعمائة دينار، وقيل للرسول: إن أخذها منك، فإن الأمير سيكسوك ويحسن إليك، فخرج بها حتى قدم على \"طاووس الجند\"- مدينة باليمن- فقال: يا أبا عبدالرحمن، نفقة بعث الأمير بها إليك.

قال: مالي بها حاجة..فأراده على أخذها، فأبى أن يقبل طاووس..فرمى بها في كوة البيت، ثم ذهب، فقال لهم: قد أخذها.

فلبثوا فترة، ثم بلغهم عن طاووس شيئًا يكرهونه، فقال: ابعثوا إليه، فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول، فقال: المال الذي بعث به إليك الأمير.

قال: ما قبضت منه شيئًا، فرجع الرسول فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقال: انظروا الذي ذهب بها فابعثوه إليه، فبعثوه فجاءه وقال له: المال الذي جئتك به يا أبا عبدالرحمن.

هل قبضت منك شيئًا؟ قال: لا.

هل تعلم أين وضعت؟ نعم في الكوة، انظر حيث وضعته، فمد يده فإذا هو بالصرة قد بنت عليه العنكبوت، فأخذها فذهب بها إليهم.

إن هؤلاء الأعلام من الأسلاف.. تميزوا في حركتهم وفي فهمهم وفي سعيهم، وتعانقت قواهم المادية مع مثلهم العليا، وجمعوا بين الروح والجسد بلا انفكاك بينهما، وعندها يجري الله الحكمة على ألسنتهم، ويفجر الخير من بين أيديهم ومن خلفهم.

وقد يظن ظان أن هؤلاء الأسلاف هجروا الدنيا [ ] ولبسوا المرقعات وعاشوا في الزوايا.. أبدًا لا، فهذا الفهم غير صحيح لرسالة الإسلام.

فقد كانوا ينظرون إلى العمل نظرة تقدير، فالعامل بيده مكرم محترم، فلا يخدش منزلة العامل أن تكون صناعته ما تكون، فللعمل شرف أيًّا كان، ولم تمنعهم الحرفة يومًا من التزود بالعلم [ ] والقيام بحق الدعوة [ ] إلى الله، وإليك بعض النماذج:

1- كان أبو حنيفة خزازًا، كما كان كثير من رجالات الفقه بعده تجارًا وصناعًا.

2- كان أحمد بن عمر بن مهير خصَّافًا، يعيش من خصف النعال، وفي الوقت [ ] نفسه كان فقيهًا يؤلف للمهتدي بالله: كتاب الخراج.

3- وكان الإمام الكرابيس.. يبيع الكرابيس أو الثياب الخام.

4- وكان الإمام القفال يقوم بصناعة الأقفال ويظهر على كفه أثر الصناعة.

5- وكان الإمام الجصاص شيخ زمانه، يعمل في الجص.

6- وكان الإمام الصفار، يبيع الأواني الصفرية- أي النحاسية.

7- وكان الصيدلاني.. يبيع العطر.

8- وكان الإمام الحلواني يبيع الحلوى.

9- والدقاق، والصابوني والبقالي، والقدوري، كل أولئك وغيرهم أصحاب مهن، وأمامهم حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: \"ما من نبي إلا رعى الغنم\"، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: \"وأنا رعيتها على قراريط لأهل مكة\" (القراريط: هي حفنات التمر).

يقول طاووس- رضي الله عنه -: \"يا عطاء، إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونك حجابًا، وعليك أن تطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه، ووعدك بالإجابة\".

ويحدثنا عن أمانة العلم [ ] وواجب العالم ودوره في الحياة فيقول: \"من قال واتقى الله، خير ممن صمت واتقى الله\"، ويقول: \"حلو الدنيا [ ] مر الآخرة\".

دخل عليه رجل يعوده فقال: \"يا أبا عبد الرحمن، ادع الله لي\"، فقال: \"ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه\".

قال الزهري: نظر سليمان بن عبد الملك إلى رجل يطاف به بالكعبة، به جمال وتمام، فقال: يا بن شهاب، من هذا؟ قلت هذا طاووس اليماني، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان فأتاه: فقال لو ما حدثتنا؟

فقال: حدثني أبو موسى الأشعري- رضي الله - تعالى -عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: \"إن أهون الخلق على الله من ولي من أمر المسلمين شيئًا، فلم يعدل فيهم\"، فتغير وجه سليمان، فأطرق قليلاً، ثم رفع رأسه فقال: لو ما حدثتنا؟

فقال: حدثني رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: \"قال ابن شهاب: ظننت أنه أراد عليًّا\" قال: \"دعاني رسول الله إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، فقال: \"إن لكم على قريش حقًّا، ولهم على الناس حقًّا، ما استرحموا فرحموا، واستحكموا فعدلوا، وائتمنوا فأدوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة [ ] والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً\"، فتغير وجه سليمان، فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال حدثني ابن عباس- رضي الله - تعالى -عنه- أن آخر آية نزلت في كتاب الله - تعالى -: {وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلٌّ نَفسٍ, مَّا كَسَبَت وَهُم لاَ يُظلَمُونَ} (البقرة: 281)، ومن كلماته- رضي الله عنه- في آخر حياته قال: \"خف الله - تعالى -مخافة- لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لنفسك\".
رضي الله عن الإمام طاووس وأرضاه، وتقبله في الصالحين.