الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا مرفأ جديد من مرافئ مركبنا القرآني ليرسو على شاطئ من شواطئ هذه القواعد القرآنية، نتدارس فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، يحتاجها كل مؤمن، وعلى وجه الخصوص من عزم على الإقبال على ربه، وقرع باب التوبة، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114].

وهذه القاعدة هي جزء من آية كريمة في سورة هود، يقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114]، وهذه الآية الكريمة سبقت بجملة من الأوامر العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، يحسن ذكرها ليتضح الربط بينها، يقول تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[هود: 112، 113].

ومعنى الآية ـ التي تضمنت هذه القاعدة باختصار ـ: أن الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو خطاب للأمة كلها ـ بأن يقيموا الصلاة طرفي النهار، وساعاتٍ من الليل، ينصب فيها قدميه لله تعالى، ثم ذكر علّلَ هذا الأمر فقال: {إن الحسنات يذهبن السيئات} أي يمحونها ويكفرنها حتى كأنها لم تكن ـ على تفصيل سيأتي بعد قليل إن شاء الله ـ والإشارة بقوله: {ذلك ذكرى للذاكرين} إلى قوله: {فاستقم كما أمرت} وما بعده، وقيل: إلى القرآن، ذكرى للذاكرين: أي موعظة للمتعظين(1).

أيها القراء الأفاضل: وكما أن هذه القاعدة صرحت بهذا المعنى، وهو إذهاب الحسنات للسيئات، فقد جاء في السنة ما يوافق هذا اللفظ تقريباً، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنّه(2) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(3).

أيها الإخوة المؤمنون: إذا تبين معنى هذه القاعدة بإجمال، فليعلم أن إذهاب السيّئات يشمل أمرين:
1 ـ إذهاب وقوعها، وحبها في النفس، وكرهها، بحيث يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها.

2 ـ ويشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها، فضلاً من الله على عباده الصالحين"(4).

ولقد بحث العلماء ههنا معنى السيئات التي تذهبها الحسنات، والذي يتحرر في الجمع بين أقوالهم أن يقال:
إن كانت الحسنة هي التوبة الصادقة، سواء من الشرك، أو من المعاصي، فإن حسنة التوحيد، والتوبة النصوح لا تبقي سيئة إلا محتها وأذهبتها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}[الفرقان: 68 - 71].

وفي صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ـ لما جاءه يبايعه على الإسلام والهجرة ـ:"أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟" (5).

وإن كان المراد بالحسنات عموم الأعمال الصالحة كالصلاة والصيام، فإن القرآن والسنة دلّا صراحةً على أن تكفير الحسنات للسيئات مشروط باجتناب الكبائر، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]، وقال عز وجل: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللّمَم}.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"(6).

أيها الإخوة المؤمنون: إن هذه القاعدة الجليلة: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} والتي جاءت في مساق الحكم الشرعي، جاء معناها في القرآن الكريم على صور منها:
1 ـ في سياق الثناء على أهل الجنة ـ جعلني الله وإياكم من أهلها ـ قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ في بيان معناها ـ: يدفعون بالصالحِ من العملِ السيئَ من العمل.
علق البغوي على كلمة ابن عباس، فقال: وهو معنى قوله: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}" (7).

2 ـ إثبات هذا المعنى في الأمم السابقة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[المائدة: 65].

3 ـ إثباته في سياق الحديث عن توبة العصاة، كما في آية الفرقان التي تلوتها قبل قليل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... إلى قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ... الآيات}[الفرقان: 68 - 71].