ما هي الأحداث التي جرت في السنة السابعة للهجرة, وكيف تم إسلام صفية وزواجها من النبي ؟

لمّا انتهت السنة السادسة للهجرة بأحداثها المليئة بالخيرات والبركات، وأقبلت السنة السابعة بما تحمله من خطوب جسام، وبزغ هلال المحرم من أول العام، فتهيأ النبي صلى الله عليه وسلم لمعركة حاسمة, تقطع دابر المكر اليهودي من أرض الحجاز, الذي كشف لثامه في معركة الخندق

في معركة الخندق اتضح أن اليهود ماكرون خائنون، وأنهم يكيدون للنبي عليه الصلاة والسلام، وما معركة الخندق عنكم ببعيد، يوم نقض اليهود عهدهم، وجاء أهل الشرك في الجزيرة, يحيطون بالمدينة, ليستأصلوا شقفة الإسلام، وكانت معركة الخندق معركة حياة أو موت ، معركة وجود أو عدم وجود، والله سبحانه وتعالى نصر النبي عليه الصلاة والسلام, وانكشفت نوايا اليهود الشريرة، وانكشف مكرهم وخداعهم، وهذا ديدنهم منذ قديم الأزمان

خرج النبي صلى الله عليه وسلم في النصف الثاني من المحرم إلى خيبر, وهي مدينة كبيرة, ذات حصون ومزارع وقلاع، تقع على بعد مئة ميل شمال المدينة المنورة، من أكبر مدن الحجاز، ومن أشدها حصانة، وقوة, ومناعة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة مقاتل، ما بين فارس وراجل

فلما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه: قفوا، وكان عليه الصلاة والسلام إذا غزا قوماً لم يغز عليهم حتى يصبح، فلما أصبح رآه عمّال خيبر، وقد خرجوا بمساحيهم، وفؤوسهم، ومكاتلهم, يقصدون مزارعهم، فلما رأوه صاحوا:

((محمد والخميس، ثم ولوا هاربين، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر, خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم, فساء صباح المنذرين))
ثم سار النبي عليه الصلاة والسلام, يفتح عقول خيبر وحصونها واحدًا تلو الآخر، حتى إن حصن ابن أبي الحقيق فتحه، وجيء بسبايا الحصن، وفيهم صفية بنت حيي، إذاً: صفية سبية من سبايا أحد حصون خيبر، ومعها ابنة عم لها, جاء بهما بلال رضي الله عنه, فمرّ بهما على قتلى يهود الحصن، فلما رأتهم المرأة التي مع صفية, صكت وجهها، وصاحت, وحثت التراب على وجهها، فقال عليه الصلاة والسلام لبلال:

((أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟))
أرأيتم إلى رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى في الأسيرة، أسيرة أعدائه، كبر عليه أن يرى امرأة ضعيفة قتلى قومها أمامها، فعنف بلالاً فقال: أنزعت الرحمة من قلبك, حينما تمر بالمرأة على قتلى قومها، وقال لبلال أيضاً، وكان صفية رأت قبل ذلك .
هنا هذه السبية بنت حيي زعيم اليهود, رأت في المنام أن القمر وقع في حجرها، وفي رواية: رأت الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها، فذكرت ذلك لأمها، فلطمت وجهها, وقالت: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب، هذه الرؤيا التي رأتها هذه السبية بشرت بمستقبلها، هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأت القمر قد وقع في حجرها، أو رأت الشمس نزلت فوقعت على صدرها .
فلم يزل الأثر على وجهها، لطم أمها لها بقي فترة طويلة، حتى أتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألها عنه أخبرته، فكبرت في نفسه صلى الله عليه وسلم حين سمع منها هذه البشارة التي زفها الله إليها .

يعني أحياناً الإنسان يرى رؤيا واضحة جداً, هذه الرؤيا الواضحة هي من عند الله عز وجل، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، الرؤيا الصالحة طريقة أو هي إعلام الله عز وجل لهذا الإنسان، يعلمه بشيء ما، فربنا عز وجل بشرّ هذه المرأة الصالحة التي جعلها من نسل يهودي بأن زوجها رسول الله، ومن خلال هذه الرؤيا التي رأتها, أدركت أمها معنى هذه الرؤيا، فلطمت وجهها، وصكته، وقالت: إنك تمدين عينيك إلى أن تكوني عند ملك العرب، ولم يبق أثر لطم أمها على وجهها .

فحينما رآها النبي عليه الصلاة والسلام، وسمع منها هذه البشارة التي زفها الله تعالى إليها, واسى آلامها، وخفف من مصابها، وأعلمها أن الله تعالى حقق رؤياها .

الآن لما صار النبي عليه الصلاة والسلام على ستة أميال من خيبر, يريد أن يعرس بها, فأبت عليه، فوجد في نفسه, فلما كان بالصهباء، وهو على بريد من خيبر, نزل بها هناك, فمشطتها أم سليم، وعطرتها، وكانت صفية من أضوء ما يكون من النساء، فدخل صلى الله عليه وسلم على أهله، فلما أصبحت سألتها عمّا قال لها، فقالت: قال لي:


((ما حملك على الامتناع من النزول أولاً؟ فقالت: خشيت عليك من قرب اليهود، فزادها ذلك عنده منزلة ومكانة))

يعني أرادت أن يبتعد كثيراً عن ديار اليهود, لئلا يغدروه، فكانت حريصة عليه حرصاً شديداً، هذا الذي ذكره كتاب السيرة .
وفي طريق العودة إلى المدينة, تهيأ الركب لملاقاة الأهل والأخوة، فاستقبل القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالترحاب والإكرام، وكانت بشائر الانتصارات تزف إليهم حيناً بعد حين .
وقد ذكر ابن سعد من طريق عطاء بن يسار, قال:


((لما قدمت صفية من خيبر, أنزلت في بيت الحارث بن نعمان، فسمع نساء الأنصار, فجئن ينظرن إلى جمالها، وجاءت عائشة متنقبة، فلما خرجت, خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أثرها, فقال لها: كيف رأيت يا عائشة؟ قالت : رأيت يهودية، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقول ذلك، فإنها أسلمت، وحسن إسلامها))

أنا استنبط من هذا: أن الإنسان يكون له انتماء معين، له مشكلة معينة، وبعد أن يتوب إلى الله، ويسلم، وبعد أن يستغفر, ينتهي الماضي، فكلما كنت أقرب إلى الله نسيت الماضي، وكلما كنت تتحرك بحركة غير صحيحة, يثير ماضيك عندك الشيء الكثير، فإذا كان الإنسان تائهاً أو شارداً، وتاب إلى الله توبة نصوحاً, فينقسم الناسُ قسمين: قسم يريد أن يركز على ماضيه، وقسم يركز على حاضره، كلما كنت أقرب إلى الله عز وجل تركز على الحاضر، وكلما كنت أبعد عن منهج الله تركز على الماضي، وهذا الشيء يبعث في النفس الألم، كان الإنسان شاردًا ومخطئًا، ثم تاب، وأسلم وحسن إسلامه، وارتقى إلى الله عز وجل, لماذا تذكره بهذا الماضي؟ لا بدّ أنك تريد أن تثبطه، أن تضعفه، أن تذكره بما اقترفت يداه .

لذلك سيدنا يوسف عليه السلام علمنا من خلال القرآن لما التقى بأخوانه, قال:


﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
[سورة يوسف الآية: 100]

السجن ليس فيه خطر على بقاء الإنسان، الخطر بالجب، يعني لو أنك أردت أن تذكر أيهما أخطر وضعه في الجب أم وضعه في السجن؟ وضعه في الجب مظنة هلاك، لكن وضعه في السجن مظنة سلامة، هو يتذكر فضل الله عليه إذ أخرجه من السجن، ولم يقل: إذ أخرجه من الجب، لأنه إن قال: إذ أحسن بي إذ أخرجني من الجب, يخاطب أخوته, ذكرهم بجريمتهم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قمة في الكمال .

فإذا كان للإنسان عمل، وتاب منه، فالكمال ألا نذكره له إطلاقاً، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام, وقف موقفاً أبلغ من ذلك, لما جاءه عكرمة مسلماً, وجه أصحابه الكرام, فقال: جاءكم عكرمة مسلماً، فإياكم أن تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغه .
فالمؤمن يقرب ولا يبعد، لا يحمر الوجوه، لا يحرج الناس، في شخص عنده رغبة في إحراج الناس, دائماً يذكرهم بعمل أخطؤوا فيه سابقاً، سيدنا عمر جاءه رجل, وقال: يا أمير المؤمنين, إن أختي وقعت في معصية، وأقيم عليها الحد، وجاء الآن من يخطبها, أفأذكر ذلك لمن خطبها؟ قال له: والله لو ذكرته لقتلتك، إذا تاب الإنسان من شيء, ينبغي أن تطوى صفحة.
فقال صلى الله عليه وسلم:

((لا تقولي ذلك إنها أسلمت، وحسن إسلامها))
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء عقب ذكره لصفية:

((ومنهن التقية الذاكرة, ذات العين الباكية, صفية الصافية زوجة النبي صلى الله عليه وسلم))
بالمناسبة ليس في الإسلام عداوة ثابتة، الله جلّ جلاله في الأصل لا يبغض عباده، بل يبغض أفعالهم، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، فالله لا يبغض عبده، بل يبغض فعل عبده، بدليل أن الإنسان مجرد أن يتوب إلى الله, ينتهي الأمر .
سيدنا عمر رضي الله عنه, لما دخل عمير بن وهب, جاء ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، وأدرك بحدسه، وهو عملاق الإسلام, أن هذا عدو الله، جاء يريد شراً، فكتفه بحمالة سيفه، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال:


((يا رسول الله! هذا عمير جاء يريد شراً، سيدنا رسول الله قال له: ابتعد عنه، وأطلق سراحه، وقال: ادن مني يا عمير، -بقلب كبير، وعطف شديد, وقد جاء ليقتله- قال: سلِّمْ علينا، فقال: أنعمت صباحاً يا محمد، قال له: سلّم بسلام الإسلام، -بغلظة ما بعدها غلظة- ليس بعيدَ عهدٍ بسلام الجاهلية، ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال: جئت أفك ابني من الأسر، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال له: ألم تقل لصفوان: لولا أولاد صغار, أخشى عليهم العنت، وديون لا أطيق سدادها, لذهبت وقتلت محمداً، وأرحتكم منه؟ فوقف، وقال: أشهد أنك رسول الله، إن هذا الذي قلته لصفوان, لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسوله، وأسلم .
-الشاهد أن سيدنا عمر- قال: دخل عمير على رسول الله، والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده، وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي))

هذه عظمة الإسلام, ليس هناك عداوة دائمة، والمسلم لا يكره غير المسلم، بل يكره فعله فقط، يكره انحرافه، يكره تقصيره، يكره عدوانه، لا يكره ذاته، لأنه عبد لله شارد .

حال المسلم مع غير المسلم, كحال الطبيب مع المريض، هناك مرض جلدي، المرض مقزز، لكن هل يحقد الطبيب على المريض المصاب بمرض جلدي؟ لا, بل يشفق عليه، وكل مؤمن بلغ مرتبة عالية في قلبه رحمة، فإن رأى إنسانًا شاردًا منحرفًا, يشفق عليه، ولا يحقد عليه، وهذا الدين لا يبنى على الحقد، ولا على الكراهية، بل يبنى على المحبة، ويبنى على محبة الخلق كلهم .
إذاً: هذه بنت حيي ابن أخطب, قال عنها كتاب السيرة:


((التقية الزكية، ذات العين الباكية ، صفية الصافية، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم))

يتبع ...