يزعم المغرضون أن البخاري - رحمه الله- أول من كتب الحديث، ولم يفعل ذلك أحداً حتى جاء البخاري، ويتسألون: كيف عرف المسلمون الذين عاشوا قبل ميلاد البخاري دينهم؟ وكيف فهموا تشريعات دينهم من خلال القرآن وحده ووفاة النبي - صلى الله عليه وسلم- كانت سنة (11) هجرية إلى أن ولد البخاري سنة (194) هجرياً أي ما يقرب من (183) سنة؟

وسر هذا الاعتراض جهلهم بتاريخ علوم الحديث؛ إذ كتابة الأحاديث كانت موجودة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم-، وفي عصر الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وليس البخاري أول من كتب في الحديث، فالصحابة أول من كتبوا الأحاديث في الصحف، وكانت هذه الصحف هي النواة الأولى لما صنف في القرنين الثاني والثالث الهجري من الجوامع والمسانيد والسنن وغيرها، فهذا أبو بكر - رضي الله عنه- لما استخلف بعث أنس بن مالك إلى البحرين وكتب له كتاباً فيه فرائض الصدقة، وقال في أوله: " هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمُسْلِمِينَ"[1].

وغير صحيفة أبي بكر صحيفة علي بن أبى طالب - رضي الله عنه-، فعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ، قَالَ: وَصَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ، فَقَدْ كَذَبَ[2] وقال أَبو جُحَيْفَةَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه-: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ[3]، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ[4]، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»[5]

وغير صحيفة علي صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة فعن مُجَاهِدٌ، قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَتَنَاوَلْتُ صَحِيفَةً مِنْ تَحْتِ مَفْرَشِهِ، فَمَنَعَنِي، قُلْتُ: مَا كُنْتَ تَمْنَعُنِي شَيْئًا، قَالَ: هَذِهِ الصَّادِقَةُ، هَذِهِ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ[6].

وغير صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة عبد الله بن أبي أوفى، وقد ذكرها البخاري في كتاب الجهاد من "صحيحه" باب الصبر عند القتال.ولما جاء التابعون تهيأ لهم من كتابة الأحاديث والسنن ما لم يتهيأ لغيرهم، فأكثروا من التقييد والكتابة فقد تمت معظم الفتوحات، وسكن الصحابة الذين حملوا الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الأمصار الإسلامية، وأصبح هناك تفرغ للعلم والرواية والفتوى، وتكونت المدارس العلمية في الحجاز وغير الحجاز، وأضحى لهذه المدارس أساتذة وأئمة، وطلاب كثيرون، وأصبح للعلم ولا سيما علم القرآن والسنة في المجتمع الإسلامي منزلة تفوق منزلة الإمارة، بل والخلافة، فلا عجب أن أقبل التابعون على العلم بنهم غريب، وكان لرواية الأحاديث والسنن من ذلك حظ كبير [7].وممن كتب الحديث منهم أو أجاز كتابته لحفظه سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، وبشير بن نهيك، وهمام بن منبه، وكثير بن أفلح، وسعيد بن جبير، وعبيدة بن عمرو السلماني، وابن عقيل، ومحمد بن علي أبو جعفر، ومحمد بن الحنفية، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن يزيد الجرمي، وأبو المليح عامر بن أسامة بن عمير، وقتادة بن دعامة السدوسي وغير هؤلاء كثيرون[8].ولقد حَرَصَ التابعون على ملازمة الصحابة وحفظ مروياتهم وتدوينها، ولقد سجلت أمهات الكتب أن علماء التابعين دوَّنوا ثروة هائلة من الحديث الشريف، وكانت لديهم كتب وصحف ونسخ شهيرة دوَّنوا فيها هذه الأحاديث، وقد حفظ لنا التاريخ بعض صحائفهم وكتبهم التي دوَّنوها عن الصحابة، والتي منها ما يأتي:

- كُتُب أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي "ت104هـ، وقيل بعدها" التي كتبها عن: سمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وثابت بن الضحاك، وعمرو بن سلمة وغيرهم.- صحفية حُجْر بن عدي "51هـ" عن السيدة عائشة وعلي بن أبي طالب وغيرهما.- كتاب محمد بن عمرو بن حزم "63هـ" عن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ووالده عمرو بن حزم والي نجران من قِبَلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.- صحيفة محمد ابن الحنفية "73هـ" عن جابر بن عبد الله وغيره.- كتاب بشير بن نهيك "80هـ" عن أبي هريرة. - صحيفة سعيد بن جبير "95هـ" عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، ويقال: إنه جمع تفسيرًا للقرآن بأمر من الخليفة عبد الملك، واحتفظ بهذا التفسير في مكتبة القصر بعد موته.- نسخة شهر من حوشب الأشعري "100هـ" عن أبي هريرة وعائشة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وغيرهم.- نسخة حبان بن جزء السلمي "100هـ" عن ابن عمر وأبي هريرة.- نسخة عقبة بن أبي الحسناء عن أبي هريرة. كتاب خالد بن معدان الكلاعي "103هـ" يتضمن مجموعة ضخمة من الأحاديث جمعها من الصحابة وجعلها في كتاب مجلد بلوحين من الخشب وملتحمين معًا، وورثها تلميذه بشير بن سعد.- صحيفة الحسن البصري "110هـ" قال عفان بن مسلم: "إنها كانت في حجم إبهامين وبنصرين إذا ضممناهما معًا"، وكانت له كتب عديدة غير هذه الصحيفة الشهيرة عند المحدثين.

- نسخة قاسم بن عبد الرحمن الشامي، وقد نقلها تلميذه علي بن يزيد.- نسخة عبد الله بن بريدة الأسلمي "115هـ" أخذها عن والده وغيره من الصحاب.- نسخة سليمان بن موسى الأسدي "115هـ" عن واثلة بن الأسقع.- صحيفة طلحة بن نافع "117هـ" عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما.- نسخة محمد بن سيرين، وقد نقلها عنه الأوزاعي.- صحيفة عطاء بن أبي رباح "117هـ"، عن عدد من مشاهير الصحابة.- صحيفة محمد بن شهاب الزهري "124هـ" وعدد من الكتب في المغازي والحديث والأنساب، وبسبب اهتمام الزهري وتلاميذه بكتابة الحديث وإملائه عُرفوا باسم: "أصحاب الكتب"، وسُميت فترته باسم "عصر الكتب"، وقد ذكرت المصادر للزهري نحو عشرة كتب.- صحيفة همام بن منبه "131هـ" عن شيخه أبي هريرة -رضي الله عنه- ونقلها تليمذه معمر بن راشد، وحفظها عبد الرزاق بن همام منفصلة عن مصنفه الكبير، ثم أخذها تلميذاه: أحمد بن حنبل وأبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي.- صحيفة هشام بن عروة بن الزبير "146هـ" عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو وغيرهما.- وصحيفة حميد بن أبي حميد الطويل "142هـ"، نسخها من مخطوطة الأحاديث للحسن البصري[9] وفي القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث الهجري ألف العلماء المسانيد والمصنفات والجوامع أهم كتب المسانيد والمصنفات والسنن والموطآت:

1- موطأ مالك(ت 204 هـ)2- مسند الشافعي (ت 179 هـ)3- مسند أبي حنيفة (ت 150 ه)4- مسند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)5- المسند لأبي داود الطيالسي الحافظ (ت 203 أو 204هـ)6- مسند أبي محمد عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي (ت 213هـ).7- مسند أبي إسحاق بن نصر بن إبراهيم المطوعي (ت 213هـ).8- مسند إسحاق بن إبراهيم بن راهوية (ت 238هـ) وهو من كبار شيوخ البخاري.9 - مسند أبي بكر ومسند عثمان ابني محمد بن أبي شيبة وهما من كبار شيوخ البخاري.10 - مسند أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (ت 219هـ) وهو من كبار شيوخ البخاري.11- مسند أسد بن موسى الأموي المعروف بأسد السنة (ت 212هـ)12- مسند مسدد بن مسرهد الأسدي البصري (6) (ت 221هـ).13 - سنن سعيد بن منصور (ت 227هـ).14 - سنن محمد بن الصباح (ت 227هـ)15- سنن الدارمي (ت 255هـ)16- جامع أبي عروة معمر بن راشد الأزدي (153هـ أو 154 هـ)17- جامع سفيان الثوري (161 هـ).18- مصنف حماد بن سلمة (ت 167 هـ).19- كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ).20 - مصنف وكيع بن الجراح (197 هـ).21- جامع سفيان بن عيينة (ت 198هـ).22- مصنف الليث بن سعد (ت 175 هـ)23 - مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ).24- مصنف أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ).

نخلص من هذا أن الأمّة لم تنتظر البخاري حتى يكتب الحديث ويجمع السنة فالبخاري ليس أول من كتب في الحديث فقد سبقه عشرات الكتب في الحديث لغيره من الحفاظ من أمثال هذه الكتب جامع سفيان الثوري، وجامع معمر بن راشد، ومصنف حماد بن سلمة، ومصنف الليث بن سعد، ومصنف وكيع بن الجراح، وموطأ مالك بن أنس، ومسند أبي حنيفة النعمان، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، وغيرهمــــــــــــــــــــــــــ[1]- سنن أبي داود 2/96 مسند الشافعي 1/235 مسند البزار 1/102 صحيح بن خزيمة 4/14 مستدرك الحاكم 1/548 معرفة السنن والآثار للبيهقي 6/16 تقييد العلم ص: 87[2]- صحيح مسلم 2/1147[3] - العقل أي الديات سميت الإبل عقلا لأنهم كانوا يعقلونها بالعقل -أي الحبال- حين يقدمونها في الديات.[4] - العمل على تخليصه من الأسر ولو كان بفداء[5]- صحيح البخاري 4/69 سنن أبي داود 2/216 مصنف بن أبي شيبة 5/409 السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل 2/583 مسند أحمد 2/221 مسند أبو يعلى الموصلي 1/350 المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود ص 200 مستخرج أبي عوانة 3/239 السنن الصغير للبيهقي 3/206[6]- تقييد العلم للخطيب البغدادي ص 84 جامع بيان العلم وفضله 1 / 73[7]- الوسيط في علوم ومصطلح الحديث لمحمد أبي شهبة ص 60[8]-توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته لرفعت فوزي ص 80[9]- منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري لعلى عبد الباسط ص 217- 220


ربيع احمد