ست مسائل حول الشورى

المسألة الأولى :
الأمة هي المكلفة بإقامة الشريعة، بأفرادها وبمجموعها؛ ولذلك ورد الخطاب في الأوامر والنواهي في القرآن الكريم موجهًا إليها:
(ءَامَنُوا) (أَطِيعُوا) (اِفْعَلُوا الْخَيْرَ) (جَاهِدُوا)
(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 41]
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110]
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) أي من مجموعكم، فَـ"مِنْ" هنا بيانية وليست تبعيضية (أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ..) [آل عمران: 104]
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ..) [النساء: 58]
وهـكذا..
وفي مجال النواهي كذلك: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)[الأعراف: 56]
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]
وهـكذا..
وهذا لا يعني أنه ليس في القرآن خطاب للفرد، بل يرد أحيانًا:
(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء: 78]
(أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)[لقمان: 17]
(لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]
ولا بد للأمة لتنفيذ الشريعة من نظام، هذا النظام يتمثل في وجود حاكم يتولى ذلك نيابة عنها..
فهي التي تختاره من بينها وتُوَكِّلُه، أي تبرم بينها وبينه عقْدَ وكالةٍ:
(إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ..) [البقرة: 246]
أي اِخْتَرْ لنا أحدًا يتولَّى المُلْكَ فَنقاتل تحت رايته وقيادته (مَلِكًا) أي يملك صلاحيات الحكم والقيادة؛ لا يملك الرقاب ولا البلاد، كيف يملك رقاب من وكَّلُوهُ، فالحكم وكالةٌ عن الأمة بأي اسمٍ كان: "مُلْكًا، أو جمهوريةً، أو سلطنةً، أو إمارةً، أو خلافةً" وهذه الأخيرة لا تصح في كل حال؛ بل لها شروط وأحوال؛ منها أنها لا تكون إلا لعموم الأمة، فلا يجوز أن يكون هناك خليفتان للمسلمين؛ فلا تصح في حالة الفرقة والشتات..
قال رسـول الله صلى الله عليه وسـلم: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِرَ منهما"(1)..
وعلى هذا فسلطة الأمة فوق سلطة الحاكم، كما أن سلطة المُوكِّل أعلى من سلطة الوكيل، فيملك عزْلَهُ ويملك محاسبَتَهُ، ولا بد من تنظيم للشكل الذي يُمثِّل سلطةَ الأمة، ومن هنا تأتي أهمية "المجالس النيابية المُنْتَخَبَةِ" بأي اسم سُمِّيت، فإن لم يكن المجلس مُنْتَخَبًا من الأمة فهو لا يُمَثِّلُهَا، فإن تمََّ بتعيين الحاكم فهو مجلسُ مستشارين يُعِينُونَ الحاكمَ لكنهم لا يملكون صلاحياتِ مُمَثِّلِي الأمةِ.




المسألة الثانية:
"الشورى" هي نظام حياة في الإسلام، أُمِرَ بها المسلم في جميع أحواله..
قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159]
ورد في الحديث:"ما خابَ مَنِ اسْتَخارَ ولا ندم مَنِ اسْتشارَ" رواه الطبراني(2)
وفي حديث آخر حسنٍ لغيره: "ما سَعِدَ أحد باستغناءٍ برأيه ولا شقِيَ عن مشورةٍ" رواه البيهقي(3)..
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستشير أصحابَهُ؛ خاصةً في المُلِمَّات فما أكثر ما يقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس"
وإذا كان المعصومُ صلى الله عليه وسلم، المُؤَيَّدُ من ربه، المُسَدَّدُ بالوحي لا يستغني عن الشورى؛ فما بال غيره ؟!
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم؛ فضرب الخليفتان من بعده صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر أروعَ الأمثلة في نظام الشورى؛ حتى في المسائل العِلْمية، وكان العلماءُ والقراءُ وأهلُ الرأي والفقهِ هم أعضاءُ الشورى في مجلسِ الفاروقِ عمر رضي الله عنه، كان يستشيرهم في معظم شؤون المسلمين.



المسألة الثالثة:
النصوص تدل على أنه كما أن الشورى واجبةٌ فإنَّ نتائجها مُلْزِمَةٌ؛ وأن "الأغلبية" معتبرة في ذلك، وأعظم مثال على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، كان رأيه صلى الله عليه وسلم عدَمَ الخروج من المدينة ومقاتَلَةَ العدوِّ في طرقاتها، وحاول إقناعَ أصحابِهِ بذلك، فذكَرَ لهم الرؤيا التي رآها وأوَّلها بذلك، ومع ذلك فقد كان رأي الأغلبية الخروج، قال ابن سعد: "..فغلب الذين رأوا الخروج.."(4)فترك النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاده ونزل على رأي الأغلبية، أي ترك الاجتهادَ الراجح وأخذ بالاجتهاد المرجوح من أجل ذلك..
وهذا دليلٌ على وجوب اعتبار الأغلبية في الشورى ولو أدى ذلك إلى العمل بالمرجوح.
ومن أمثلة العمل بـ "الأغلبية"، ما رتَّبَهُ الفاروق عمر رضي الله عنه من إجراءات لِعَمَل الستة الذين عيَّنَهُم لاختيار الخليفة قال رضي الله عنه: "تشاوَرُوا في أمركم فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى، وإن كان أربعةٌ واثنان فخذوا في صنف الأكثر"(5).
وكذلك ما فعله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو رئيس لجنة انتخاب الخليفة، فقد استَقْرَأَ رأْيَ الأغلبية بواسطة "الاستفتاء العام" كما سيأتي تفصيله.



المسألة الرابعة:
"الاستفتاءُ العام" وهو من وسائل الانتخاب القوية حيث يُلْجَؤُ فيه إلى سؤال الشعب مباشرة.
وقد لجأ إليه عبد الرحمن بن عوف للترجيح بين عثمان وعلي بعدما انحصر الاختيار بينهما.. تأمَّلِ النصَّ:
قال ابن كثير: "..ويُروَى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليُوَلِّيَه، فيُذْكَرُ أنه سأل من يمكنه سؤالُهُ من أهل الشورى وغيرهم فلا يُشِيرُ إلا بعثمان حتى إنه قال لعلي: أرأيتَ إن لم أُوَلِّكَ بمَنْ تشير عليَّ ؟ قال بعثمان. وقال لعثمان: أرأيتَ إن لم أُوَلِّكَ بمَنْ تشير عليَّ ؟ قال بعلي بن أبي طالب. والظاهر أن هذا قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثةٍ وينخلع منها عبد الرحمن لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدنَّ في أفضل الرجلين فيُوَلِّيَه..
ثم نَهَضَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأيَ المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا مثْنَى وفُرَادَى ومجتمعين، سرًا وجهرًا، حتى خَلُصَ إلى النساء المُخَدَّرَات في حجابهن، وحتى سأل الوِلْدَان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدُ من الرُّكْبَان والأَعْرَاب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها فلم يجد اثنين يختلفان في تقدُّم عثمان ابن عفان، إلا ما يُنقَل عن عَمَّار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس.."(6)
فهذا الذي فعله عبد الرحمن رضي الله عنه هو الاستفتاء العام حيث الكل يدلي بصوته ورأيه، حتى النساء المُخَدَّرات؛ أي المحتجبات في الخدور، وهذا يدل على أن المرأة وإن لم يكن لها نصيب في الولايات العامة، لكن لها حق التصويت ..
وحتى الولايات العامة اختلف الفقهاء في جواز توليتها لكن الأصل قوله تعالى:(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ..)
ثم الذي عليه عمل الصدر الأول عدم توليتها؛ لذا لم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أو الخلفاءَ الراشدين وَلَّوا امرأةً ولايةً عامة.



المسألة الخامسة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا والله لا نُولِّي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حَرَصَ عليه" متفق عليه(7).
قال ذلك جوابًا على من طلب منه أن يوليه إمارة فدل على عدم جواز ذلك، وعدم جواز السعي له..
ومما يؤكِّدُهُ قولُه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبدَ الرحمن لا تسألِ الإمارةَ فإنك إنْ أُعطيتَهَا عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإن أُعطيتَهَا عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها" متفق عليه(8).
وهذا يدل على عدم صحة الطريقة الغربية في الترشيح للولايات العامة وما يتبعه من دعاية يبذلها المُرشِّح نفسَه لتزكية نفسه وبرنامجه.
ويمكن حل هذه المعضلة، بإنشاء وسيلة أخرى يكون الترشيح فيها من جهة أخرى غير المرُشَّح، فلا يقوم الأفراد بترشيح أنفسهم ولا عمل الدعاية الانتخابية لأنفسهم، وإنما تقوم بذلك مؤسسات أو أحزاب أو تنظيمات..
ويمكن الاستئناس بـ"لجنة عبد الرحمن بن عوف" رضي الله عنه التي شكلها الفاروق عمر، فيكون هناك مجلس يتولى الترشيحات أو يصادق عليها بناءًا على ضوابط وشروط يُتَعَارَفُ عليها.



المسألة السادسة:
دليلان مشهوران هما: اقتباس النبي صلى الله عليه وسلم "الخندق" من فارس؛ لم يَرَ بذلك بأسًا، لَمَّا أشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق في غزوة الأحزاب..
وهذا من باب "الوسائل" الحربية..
والآخر اقتباس الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الديوان" أيضًا من فارس، وهذا من باب "الوسائل الإدارية" في الحكم..
ولا أرى بأسًا من الاستفادة في باب الوسائل من طريقة الغربيين في تنظيم عملية الانتخابات، وكلِّ ما يتعلق بالسياسة الشرعية..
إلا فيما ورد فيه نص يخالفه كما ذكرنا في المسألة الخامسة..
ونحن نلاحظ أن أحكام السياسة الشرعية أكثرها اجتهادية فالنصوص قليلة جدًا في هذا الباب.


كتبه: عبد العزيز القارئ
في 28/6/1429هـ




(1) أخرجه مسلم [النووي على مسلم /1349هـ] 12/242.

(2) في الصغير بسند ضعيف جدًا [انظر كشف الخفاء/ص 185].

(3) في الشعب والعسكري عن جابر [كشف الخفاء/ص 421، 422].

(4) انظر طبقات ابن سعد [طبعة دار صادر] 2/38.

(5) ابن سعد 3/61.

(6) ابن كثير في البداية 7/158.

(7) البخاري في استتابة المرتدين ومسلم في الإمارة.

(8) البخاري في الأحكام، ومسلم في الإمارة.