لِمَ لَمْ يكن الرسل ملائكة ؟

لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر ، وكان هذا الأمر من أعظم ما صدّ الناس عن الإيمان، ( وما منع النَّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رَّسولاً ) [ الإسراء : 94 ] وعدّوا اتباع الرسل بسبب كونهم بشراً فيما جاؤوا به من عقائد وشرائع أمراً قبيحاًً ، وعدُّوه خسراناً مبيناً ( ولئِن أطعتم بشراً مثلكم إنَّكم إذاً لخاسرون ) [المؤمنون : 34 ] ، ( فقالوا أبشراً منَّا واحداً نَّتَّبعه إنَّا إذاً لفي ضلالٍ وسعرٍ ) [ القمر : 24 ] ،

وعندما نتأمل النصوص القرآنية يمكننا أن نرّد على هذه الشبهة من وجوه :

الأول : أن الله اختارهم بشراً لا ملائكة لأنّه أعظم في الابتلاء والاختبار ، ففي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم في صحيحه : (( إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )).

الثاني : أن في هذا إكراماً لمن سبقت لهم منه الحسنى ، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلاً تكريم وتفضيل لهم ، ( أولئك الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين من ذريَّة آدم وممَّن حملنا مع نوحٍ ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا .. ) [مريم : 58] .

الثالث : أنّ البشر أقدر على القيادة والتوجيه ، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة ، يقول سيد قطب رحمه الله في هذا : " وإنها لحكمة تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر ، واحد من البشر يحسّ بإحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم ..، ومن ثمّ يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنّه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق .

وهم من جانبهم يجدون فيه القدرة الممكنة ، لأنّه بشر مثلهم ، يتسامى بهم رويداً رويداً ، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم ، فيكون بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم ، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ، ينقلونها سطراً سطراً ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفوا نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان " .

الرابع : صعوبة رؤية الملائكة ، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة ، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة ، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك .

فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل ، فالرسول e مع كونه أفضل الخلق ، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده ، وقد كان e يعاني من اتصال الوحي به شدّة ، ولذلك قال في الردّ عليهم : ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ) [ الفرقان : 22 ] ، ذلك أنّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب ، فلو قُدِّر أنهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم .


فكان إرسال الرسل من البشر ضرورياً كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم ، والفهم منهم ، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك . ( وما منع النَّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رَّسولاً – قل لَّو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئِنين لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رَّسولاً ) [ الإسراء : 94-95 ] فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولاً من جنسهم ، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم ( لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] .


عمر سليمان الاشقر