الشرعية السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم




لا يتردد الشخص في الحكم بأن من البدهيات التاريخية أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشأ دولةً إسلاميةً في زمنه, وأنه صلى الله عليه وسلم كان رئيساً وحاكماً على هذه الدولة.

ولم تكن هذه القضية محلاً للخلاف لدى الخطاب الإسلامي في هذا العصر, ولذا فإنا سنتجاوز ذلك ونتوجه إلى دراسة قضية غدت تظهر في نوادينا الثقافية وفي بعض سجالاتنا المعرفية, وهي قضية البحث في الآلية التي أصبح بها النبي صلى الله عليه وسلم رئيساً للدولة, وتحديد العملية التي أسست الشرعية السياسية له, التي أصبح من خلالها حاكماً على دولة الإسلام.

وهذه القضية لم تكن مطروحة في الفكر الإسلامي قديماً, ولهذا ربما لا يجد الباحث كلاماً مباشراً لعلماء الإسلام فيها, وإنما حدث البحث فيها مع حالة الاحتكاك المعرفي والسياسي بين الفكر الإسلامي والفكري الغربي في عصرنا الحديث.

وإذا أردنا أن نقوم بدراسة هذه القضية ونتوصل إلى تحرير القول الصحيح فيها, وننتهي إلى الكشف عن الموقف الذي يمثل حقيقة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، علينا أولاً أن نقوم بجمع الشواهد التاريخية التي تتعلق بالموضوع , ولا بد من الحذر كل الحذر من الاعتماد على بعضها وإغفال البعض الآخر, وعلينا ثانياً أن نقوم بتحليلها تحليلاً علمياً يصور الواقع كما هو ولا نبالغ أو نتوسع في التحليل ونضيف أفكارا خارجة عن النسق الخاص بتلك الشواهد.

والحوادث التاريخية التي تمثل مخزوناً معرفياً في مثل هذه القضية هي الوثائق والمبايعات والكتابات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب , وقد اهتم المؤرخون بجمعها وتتبعها, ولعل من أجمع المؤلفات التي احتوت قدراً كبيراً منها كتاب (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة), تأليف/ محمد حميد الله, وبلا شك فليس كل ما جاء فيه صحيح أو موثوق به, ولكن ثمة قدراً كبيراً مما احتواه من الوثائق ثابت تاريخياً, فهذا الكتاب يعد موسوعة ضخمة من الشواهد التاريخية الهامة, وقد تضمن مباحث عالية الجودة في السياسة الشرعية, وفي تصوري أنه لو قام باحث بتحليل المضامين السياسية التي احتوى عليها لخرج بمعلومات مهمة جداً.

وقد حاولت أن أقوم من خلال قراءته وقراءة بعض كتب السيرة النبوية بجمع الشواهد التاريخية التي تتعلق بقضية رياسة النبي صلى الله عليه وسلم للدولة في زمنه, وقد تفاجأت من كثرة المادة العملية ومن تنوع دلالتها ومقتضياتها .

فهناك عشرات الشواهد اشتركت في الدلالة على معنى واحد وهو: أن نبوته صلى الله عليه وسلم تؤسس له الاستحقاق في الإمامة على الدولة وتحقق له الشرعية التي يمارس بها ذلك الحق, وتدل أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم ومبايعته على ذلك متضمنة للإقرار بأنه صلى الله عليه وسلم رئيس للدولة وحاكم عليها, وأن الإيمان به يكفي في تأسيس المشروعية السياسية له صلى الله عليه وسلم, ولا أنه لا يحتاج إلى مبايعة أو عقد آخر يؤسس له المشروعية.

ومن الصعب جداً سرد كل الشواهد التاريخية الدالة على هذا الرأي, ولكن يمكن تصنيفها وتقسيمها إلى أنواع بحسب دلالاتها , وهي كالتالي:

النوع الأول : الشواهد التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الرؤساء ويعدهم بأنهم إذا آمنوا به يجعل لهم ما تحت أيديهم ويوليهم عليه .
ومن ذلك ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي- شيخ اليمامة - وفيه: "سلام على من اتبع الهدى , واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر , فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك"([1]) , ومن ذلك أيضا: ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عمان وفيه: "إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما , وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل"([2]) ,ومن ذلك: كتابه صلى الله عليه وسلم إلى همدان , وفيه: "إنكم إذا شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله , وأقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة , فإن لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم , وأرض البور التي أسلمتم عليها, سهلها وجبلها وعيونها وفروعها , غير مظلومين ولا مضيق عليكم"([3]) , وهذا الحكم السياسي تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من كتبه التي أرسل بها إلى القبائل العربية, ككتابه إلى معد يكرب من خولان, وخالد بن ضماد من أزد وأبي طبيان الأزدي من غامد, وبني عامر بن الأسود من طيء.
ووجه الشاهد من هذا النوع: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس الحكم السياسي وعلق ذلك على مجرد الإيمان به وبدينه , ولو كان لا يملك الشرعية السياسية بذلك لما فعله, ولو كانت شرعيته السياسية متوقفة على مبايعة خاصة غير مبايعة الإيمان به لتوقف عن إصدار ذلك الحكم.

النوع الثاني : الشواهد التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يعين نواباً عنه على القرى والقبائل التي أعلت إيمانها به, وهذا النوع تدخل تحته شواهد كثيرة:
ومن ذلك: تعيينه لقيس الهمداني على قومه , فقد جاء في كتابه إليه : "فإني استعملتك على قومك غربهم وأحمرهم ومواليهم "([4]) , ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزياد بن الحارث لما جاء بخبر إسلام قومه :" ألا أمرك عليهم , , فقال : بلا يا رسول الله ", فكتب له كتابا, ومن كذلك : تعيينه لوائل بن حجر رئيسا على قومه([5]) , وكذلك ولى الرسول صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد نائبا عنه في مكة وعثمان ابن أبي العاص في الطائف .
ووجه الشاهد من هذا النوع : هو أنه صلى الله عليه وسلم حكم بأحكام سياسية اعتمادا على مبايعته على الإيمان به , ولم يرد أنه طلب منهم أن يبايعوه على أن يكون حاكما على الدولة حتى يمارس الحكم السياسي , وهذا يدل على أن مجرد الإيمان به قدر كاف في تأسيس الشرعية السياسية له لأنها متضمنة فيها .

النوع الثالث : الشواهد الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصدر بعض الأحكام السياسية على البلاد التي آمن أهلها خارج المدينة.
ومن ذلك كتابه إلى قبيلة بارقة , وفيه : "هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق: أن لا تجذ ثمارهم , وأن لا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق "([6]) , ومن ذلك كتابه لربيعة بن ذي المرحب من حضرموت , وفيه: "أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم"([7]) , ومن ذلك كتابه لعوسجة بن حرملة الجهني وفيه : "هذا ما أعطى الرسول عوسجة بن حرملة الجهني من ذي الرمة أعطاه ما بين بلكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة"([8]) .
ووجه الشاهد من هذا النوع : أنه صلى الله عليه وسلم حكم بحكم سياسي ونقذ حكمه في القوم الذين لم يذكر عنهم إلا أنهم بايعوه على الإيمان به واتباع دينه, وهذا يدل على أن الإيمان به متضمن للإقرار بكون حاكماً ورئيساً سياسياً.

النوع الرابع : الشواهد التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم أقر القبائل التي ربطت بين الإيمان به وبين شرعيته السياسية.
ومن ذلك إقراره لقبيلة مذحج, فإنهم حين وفدوا لمبايعته على الإيمان قالوا: "إسلامنا على أن لنا من أرضنا ماؤها ومرعاها وهدالها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم بارك على مذحج وعلى أرض مذحج من حشد ورفد وزهر" , فكتب لهم رسول الله كتابا على ذلك([9]) , ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حين دعا بني عامر بن صعصعة قال له رجل منهم : "أريت إن بايعناك على أمرك, ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء"([10]) , فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ربطهم بين الإيمان به وبين الإقرار بكونه رئيساً للدولة, ولكنه أنكر عليهم طلبهم لتوريث الرياسة.
ووجه الشاهد من هذا النوع: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الربط بين الإيمان به وبين كونه رئيساً للدولة, فلو كان لا يملك الشرعية السياسية بمجرد الإيمان به لأنكر ذلك الربط ولصرح بنفيه.

فهذه الشواهد تواردت كلها على تأكيد معنى واحد وهو أن سيادة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية تتحقق بمجرد الإيمان به, وأنه لا يحتاج في تأسيس شرعية حكمه السياسي إلى مبايعة أخرى تثبت رضا الناس المؤمنين بنبوته بكونه حاكما للدولة, لأن هناك ترابط ضمني بين الإقرار بالإيمان به وبكونه رسولاً وبين الإقرار والرضا بكونه يملك الشرعية السياسية التي يصدر من خلالها أحكاماً سياسية نافذة, وهذا الترابط هو المنسجم مع طبيعة الإقرار بنبوته, فمن المستبعد عقلاً أن يقر الإنسان الكافر بكونه رسول الله وأنه معصوم ومؤيد من السماء ومشرع للأحكام ثم بعد ذلك لا يقر ولا يرضى بكونه حاكماً على الدولة ولا يثق في نزاهته السياسية أو عدله وسعة نظرته في إدارة شؤون البلاد.