ثالثاً: ما لا نصدقه ولا نكذبه:
وهو ما عدا هذين النوعين، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ).[ رواه الإمام البخاري ح/ 4215].
وكوننا لا نصدقه ولا نكذبه يعني: خروجه عن دائرة الاعتقاد والوحي إلى دائرة الرأي والرواية التاريخية التي تقبل الخطأ والصواب والتعديل والإضافة، أي أن النهي لا يعني عدم البحث فيه مطلقاً، ولكنه بحث مشروط، وضمن دائرة الظن والاحتمال.
[ انظر يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟ للدكتور: سفر الحوالي ] .
والحديث عن البشارات والنبوءات التي جاءت في التوراة والإنجيل ، هو حديث عن علامة من علامات نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه أداءٌ لحق البلاغ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.فعن عبد الله بن عمروـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( بلغوا عني ولو آية ).[ رواه الإمام البخاري ح/ 3274 ]، فالله سبحانه وتعالى جعل سعادة البشرية في الدنيا، وهدايتهم لكل خير في طاعته وإتباعه، قال تعالى في سورة النوروَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)النور: 54
وجعل نجاتهم في الآخرة متوقفة على إتباعه.
قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: ( لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا دخل النار ). [رواه الإمام مسلم ح/153].
ولقد كان يُعجب النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسمع أصحابه قصص أهل الكتاب الدالة على نبوته ، كما ثبت ذلك في قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فبعد أن قص سلمان قصته على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :فأعجب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ أن يسمع ذلك أصحابه رضي الله عنهم.
[ أخرجه الإمام أحمد ( 5/441-444 )،قال شعيب الأرنؤوط ،و حسين الأسد في تحقيق سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي( 1/511 ) :رجاله ثقات وإسناده قوي ].
والناظر في أسباب دخول الناس إلى دين الله أفواجا ، وإيمانهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ وخاصة أكثر العرب الذين لم يكن لديهم علم بتلك البشارات ، يجد أنهم آمنوا لما تبين لهم من آيات وعلامات دلت على صدق نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ بل إن أتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ من العرب وغيرهم كانوا أكثر بعد موته ، مع عدم إطلاع غالبيتهم على البشارات والنبوءات ، وهم في تزايد مستمر،وذلك لما رأوا من عدل ورحمة ويسر الشريعة التي جاء بها ، ولما وجدوا من حسن أثر دعوته في أتباعه على مر الأزمان ، ومن ذلك حسن أخلاقهم ، وما جاء به من علامات تدل على صدق نبوته ، والتي منها :

أولا: القرآن الكريم ، وهو أعظم الآيات والدلائل ، وسائر العلامات له تبع ، والقرآن آية بينة معجزة من وجوه متعددة : من جهة اللفظ ،ومن جهة النظم ، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية ، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى في سورة الإسراء : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)الإسراء: 89وانظر الجواب الصحيح 5/428.
والقرآن معجز بمعارفه وعلومه، ولم يقدر أحد من العرب وغيرهم ـ مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق، وقدرتهم على أنواع الكلام ـ أن يأتوا بمثله.
ويقول تعالى في سورة الإسراء: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)الإسراء: 88
ويقول تعالى في سورة في سورة النساء فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)النساء:82
قال الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية الكريمة : إن الذي أتيتهم به ـ يا محمد ـ من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه ، وائتلاف أحكامه ، وتأييد بعضه بعضا بالتصديق ، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق ، فإن ذلك لو كان من غير الله سبحانه وتعالى لاختلفت أحكامه ،وتناقضت معانيه ، وأبان بعضه عن فساد بعض.[تفسير الطبري 5/179].
وقال تعالى في سورة يونسوَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)يونس: 37
وتأمل أثر القرآن على ملك الحبشة النجاشي ، وبطارقته وكانوا نصارى ، ثم إقرار النجاشي أن ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ وهو القرآن ـ يخرج وما جاء به عيسى عليه السلام وهو الإنجيل من مشكاة واحدة ـ فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالهجرة إليه لما كانوا يلاقونه من تعذيب وتضييق من كفار مكة ، وكان ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد ، وبعد أن وصلوا إليه عاشوا في خير جوار عنده ، آمنين على دينهم يعبدون الله لا يؤذون ولا يسمعون شيئا يكرهونه ،فلما بلغ ذلك قريشا أغضبها ما كانوا يسمعونه عن أمن المهاجرين ،فتآمروا ليلاحقوهم هناك !! وقرروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين ليهدوا للنجاشي هدايا مما يحبه من متاع مكة ،وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم ـ الجلد ـ فجمعوا له أدما كثيرا ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما :ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ليستميلوهم فيشيروا على النجاشي بما يريدون.
فخرجا فقدما على النجاشي ،فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ،ثم كلماه فقالا له :أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشي ،ثم قال :لا ها الله، أيم الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أُكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم ، فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم،فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض:ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟.
قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ كائن في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم.
فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟.
فكلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ،ونأكل الميتة ،ونأتي الفواحش ،ونقطع الأرحام ،ونسيء الجوار ، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله سبحانه وتعالى إلينا رسولا منا ،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ،فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ،ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ،وأمرنا بصدق الحديث ،وأداء الأمانة ،وصلة الرحم ،وحسن الجوار ،والكف عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكل مال اليتيم ،وقذف المحصنة ،وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
فعدد عليه أمور الإسلام ،قال :فصدقناه ،وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ،فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ،وحرمنا ما حرم علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ،فعدا علينا قومنا ،فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ،وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وشقوا علينا ،وحالوا بيننا وبين ديننا ،خرجنا إلى بلدك ،واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ،ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .
فقال له النجاشي :هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟.