يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيرٌ من مجتهدي السّلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنّه بدعة، إمّا لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإمّا لآياتٍ فهموا منها ما لم يُرد منها، وإمّا لرأيٍ رأوه، وفي المسألة نصوصٌ لم تبلغهم، وإذا اتّقى الرجل ربَّه ما استطاعَ دخل في قوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة:286]. وفي الصحيح قال: "قد فعلت" (الفتاوى، 19/192).




من الطّبيعي أنْ يكون للصّحوة الإسلامية المعاصرة أعداء من خارجها يتربّصون بها، ويكيدون لها، فهذا أمرٌ منطقيٌ اقتضته سنّة التدافع بين الحقّ والباطل، والصراع بين الخير والشر، والتي أقام الله عليها هذا الكون الذي نعيش فيه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) [سورة الفرقان: 31].

إنما الذي يزعج ويؤرِّق ويذيبُ قلوب المؤمنين الصادقين: أن تعاديَ الصحوةُ نفسَهَا وأن يكون عدوُّها من داخلها.

من الطبيعي أنْ يكون في الصّحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الإسلام، والعمل على التمكين له في الأرض, وذلك إذا كان هذا التعدّد تعدُّدَ تنوُّعٍ وتخصّصٍ، لا تعدُّد تعارضٍ وتناقضٍ..على أن يتمّ بين الجميع قدرٌ من التعاون والتنسيق، حتى يُكْمِلَ بعضُهم بعضاً, ويشدّ بعضُهم أزر بعضٍ، وأن يقفوا في القضايا المصيرية صفاً واحداً.

ومما يدمي القلبَ حقاً أن يوجد بين العاملين للإسلام!! مَنْ لا يُقدّرُ هذا الأمر حقَّ قدره، ويبذر بذور الفرقة أينما حلّ، ويبحث عن كلّ ما يوقد نيران الخلاف، ويورثَ العداوةَ والبغضاء، وتركيزه دائماً على مواضع الاختلاف، لا نقاط الاتفاق.

والحقّ أنّ الاختلاف في ذاته ليس خطراً، وخصوصاً في مسائل الفروع، وبعض الأصول غير الأساسية، إنّما الخطر في التفرّق والتعادي الذي حذّر الله ورسولُه منه.

لهذا كانت الصّحوة الإسلامية والحركة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها ومدارسها في حاجة إلى وعي عميق بما نسميه: (أدب الاختلاف): أي احترام المخالف والتعاون معه في الخير..

الاتحاد فريضةٌ, والتفرق شرٌّ وفتنةٌ

ما أشدّ حكمة ذاك الإمام الذي اختلف النّاس في مسجده بعد صلاة العشاء في رمضان: هل يصلون التراويح ثماني ركعات أم عشرون ركعة؟!! فما كان منه إلا أنْ قال:"سأغلق المسجد, ولْيَصلِّ كلُّ واحد منكم التراويح في بيته! لأن اتّحادكم فرضٌ والتراويح سنةٌ!".

لا يوجد دين دعا إلى الأخوة التي تتجسّد في الاتحاد والتضامن، والتساند والتآلف، والتعاون والتكاتف، وحذّر من التفرّق والاختلاف والتعادي، مثل الإسلام في قرآنه وسنته, وهذا من الواجبات على الدّاعين إلى الإسلام والعاملين أن يكون من أهدفهم: الاتحادُ والألفة، واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبُعدُ عن الاختلافِ والفرقة، وكلِّ ما يمزق الجماعة أو يفرّق الكلمة، مما يوهن دِيْن الأمة ودنياها جميعاً.

قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].

وقال تعالىوَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]
.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَد اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ". (الترمذي)

وفي الصّحيحين قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً".

ومع أنّ الله أمر بالجماعة والائتلاف، فقد شدّد سبحانه النّهي عن الاختلاف: فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). [الأنعام: 158].

وقال- صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ". (الترمذي)

وما أشدّ فقه شيخ الإسلام ابن تيمية حينما رأى أنّ تَرْكَ بعض المستحبات- تأليفاً للقلوب وطلباً لوحدة الصّف -مطلوبٌ فقال: "لأنّ مصلحة التأليف في الدّين (أعظم) من مصلحة فعل مثل هذا, كما ترك النّبيّ- صلى الله عليه وسلم - تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب ".

وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصّلاة في السّفر ثم صلّى خلفه متمّاً, وقال:"الخلاف شر". (الفتاوى 22/407 (.

وقرّر رحمه الله أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يُتْرَكُ إذا أدّى إلى منكرٍ أكبر, أو أدّى إلى تفويت مصلحةٍ أعظم, وهذا من فقهه رحمه الله تعالى: "فإذا كان النّهي سيُؤدّي إلى مفسدةٍ أكبرَ, أو سيُضيع مصلحةً أعظمَ فلا نهيَ ولا أمرَ".

التفريق بين الاختلاف السّائغ وغيره:

ثمّة أمورٌ يفترق فيها الاختلافالذي سوّغه العلماء عن الخلاف الذي ذمّه العلماء غاية الذّمّ، منها:

-أنّه (أي الاختلاف السّائغ) لا يكون في المسائل الأصولية في الدّين، العقدية منها والفقهية، كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجّية السّنّة، وفرضية الصّلاة, أو فرضية الوضوء للصّلاة, مثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصّريحة على إثباتها.

- أنّ الاختلاف السّائغ لا يكون في المسائل التي انعقد عليها الإجماع...

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مَن خالف الكتاب المستبين، والسّنّة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع" (الفتاوى: 4/172).

- أن يكون هذا القول صادراً عن الاجتهاد والنّظر في الأدلة الشّرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحقّ الذي أراده الله ورسوله، وعليه فلا كرامة لمن صدر في رأيه عن العقل المجانب للشرّع, أو عن الرؤى المنامية, ولا لمن صدر عن الهوى أو العصبية، قال الإمام الشّاطبي - رحمه الله -: "الاجتهاد الواقع في الشّريعة ضربان، أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصّادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه, والثّاني: غير المعتبر، وهو الصّادر عمّن ليس بعارفٍ بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأنّ حقيقته أنّه رأي بمجرد التّشهّي.. فكلّ رأيٍ صادرٍ عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضدّ الحقّ الذي أنزله..." (الموافقات4/167(.

المقصود بــــ ( أدب الاختلاف)

قال ابن حجر في الفتح (10/400): "الأدب:استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً, وعبّر بعضهم عنه بأنّه:"الأخذ بمكارم الأخلاق" ..وقيل: "هو تعظيم مَن فوقك, والرفق بمن دونك".

المقصود بــــ ( أدب الاختلاف) أمورٌ, من أهمها:

أولاً: عدم تكفير المخالف:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (5/200):"(والخوارج) المارقون الذين أمر النّبيّ- صلى الله عليه وسلم - بقتالهم, قَاتَلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. لدفع ظلمهم وبغيهم, لا لأنّهم كفارٌ, ولهذا لم يَسْبِ حريمهم, ولم يَغْنَم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنّص والإجماع لم يُكَفَّروا مع أَمْرِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، فكيف بالطّوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحقّ في مسائل غلط فيها مَن هو أعلم منهم! فلا يحلّ لأحدٍ من هذه الطّوائف أنْ تُكَفِّر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإنْ كانت فيها بدعةٌ محقّقةٌ، فكيف إذا كانت المكفّرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنّهم جميعاً جهالٌ بحقائق ما يختلفون فيه"!

ثانياً:حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم, لا تحلّ إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجّة الوداع: "إنّ دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا" (البخاري).

وقال - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا, وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا, وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا, فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ, فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ"(البخاري), أي: لا تنقضوا عهد الله وعهد رسوله لمن قام بذلك.

ثالثاً:احترام الرأي المخالف، وتقدير وجهات نظر الآخرين، وإعطاء آرائهم الاجتهادية حقّها من الاعتبار والاهتمام. وذلك مبني على أصل مهم، وهو: أنّ كلّ ما ليس قطعياً من الأحكام، هو أمرٌ قابلٌ للاجتهاد، وإذا كان يقبل الاجتهاد، فهو يقبل الاختلاف، فلو كانت أدلته قطعية لما اختلف فيه علماء السّلف أصلاً.

فيُحسَنُ الظّن بالعلماء, ولا يُعتَقَد أنّهم تعمدوا ترك الحقّ الذي بان لهم, قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكمَ الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر" (البخاري).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيرٌ من مجتهدي السّلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنّه بدعة، إمّا لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإمّا لآياتٍ فهموا منها ما لم يُرد منها، وإمّا لرأيٍ رأوه، وفي المسألة نصوصٌ لم تبلغهم، وإذا اتّقى الرجل ربَّه ما استطاعَ دخل في قوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286]. وفي الصحيح قال: "قد فعلت" (الفتاوى، 19/192).

وقد فقِه الصّحابة الكرام هذا المعنى فقال: علي - رضي الله عنه - لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: "إني لأرجو أن يجعلني الله وإيّاك في الذين قال الله - عز وجل - فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ) [الحجر:47]. (الحاكم).

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحلُّ هذا ويحرِّم هذا، فلا يرى المحرّم أنّ المحلّ هلك لتحليله، ولا يرى المحلّ أنّ المحرم هلك لتحريمه" (جامع بيان العلم 2/80(.

رابعاً:التسامح وألا نتعصب لرأي ضدّ رأيٍ آخر في المسائل الخلافية, ولا لمذهبٍ ضدّ مذهبٍ، ولا لإمامٍ ضدّ إمامٍ، بل نرفع شعار التسامح