منـزلة السنة في الدين
السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام
أجمع فقهاء المسلمين قديماً وحديثاً من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا إلا من شذَّ من بعض الطوائف على الاحتجاج بها وعدِّها المصدر الثاني للدين بعد القرآن الكريم، فيجب اتباعها، وتحرم مخالفتها. وقد تضافرت الأدلة القطعية على ذلك، فأوجب الله سبحانه على الناس طاعة رسولهوبيَّنَ أنه
هو المبيِّن لما أنزل من القرآن، وذلك بعد أن عصمه من الخطأ والهوى في كل أمر من الأمور وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ 3 إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ 4 عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ 5 [النجم:3-5]. كما عصمه من الناس حين أمره بتبليغ ما أنزل إليه قال تعالى:۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ67[المائدة الآية:67].
فهو إذاً قد مَهَّد لرسولهطريق الدعوة، وذلَّلَ له مهمة تبليغها، فبَيَّنَ سبحانه وتعالى للناس ما يأتي:
أولاً: وجوب طاعة الرسول.
ثانياً: أن الرسول g هو الذي يبين للناس كتابَ ربهم سبحانه وتعالى. وهذان الأمران متلازمان في إثبات حجية السنة؛ لأن الله تعالى أوجب طاعة رسوله g؛ لأنه مبيِّن للناس ما أنزل إليهم، قال الشاطبي: "فإذا عمل المكلف وفق البيان أطاع الله فيما أراد وأطاع رسولَه في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان، إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه وعصى رسوله في مقتضى بيانه"([1]).
وسأتناول الحديث عن هذين الأمرين وهما وجوب طاعةِ الرسول g، وبيان أن الرسول g هو الذي بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم.
( 1 ) وجوب طاعة الرسول:
فرض الله سبحانه وتعالى طاعة رسوله g، وورد الأمر بها في القرآن الكريم على وجوه كثيرة تختلف باختلاف أحوال المخاطبين ومشاربهم ونياتهم، فمنهم اليهودي الذي يحتاج إلى كثرة الأدلة، والمنافق الذي يحتاج إلى أسلوب التهديد، والمؤمن الذي يقبل الأمر ويعرف هداية الله من أقرب طريق. وقد سلكت آيات القرآن الكريم في بيان ذلك مسلكاً مناسباً ونهجت منهجاً حكيماً:
1- فقد دلت مرة على وجوب طاعة الرسول g، بالأمر بالإيمان بالرسل "وهذا يستلزم وجوب طاعة الرسـول g، من
ذلك قوله تعالى: يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ
وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ[النساء:171]. فالأمر بالإيمان بالرسل مع الإيمان بالله لا يكون إلا إذا كان مع الإيمان تصديق لما يبلغه الرسل عن الله وإذعان وطاعة لهديهم على هذا فرسولنا g يجب الإيمان به للأمر بالإيمان بالرسل، وطاعته واجبة كطاعتهم التي استلزمها الأمر بالإيمان بهم.
2- ودلت الآيات أيضاً على وجوب طاعة الرسول g باقتران الأمر بالإيمان به مع الأمر بالإيمان بالله سبحانه قال الله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ [النساء:136]. وقال الله تعالى: فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ 8 . [التغابن:8]. وقد أظهر الله تعالى في هذه الآيات وغيرها مكانة نبيه g، فنَصَّ على الإيمان به ولم يكتفِ بالأمر العام السابق رغم دخوله فيه؛ وذلك لأن رسالته خاتمة، وبعثته عامة، فاقتضت الحكمة أن يُخَصَّ بمزيد عنايته ويفهم
من ذلك الأمر بطاعته، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل شأنه أن جعله علماً لدينه لما افترض من طاعته وحرم من معصيته وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسـوله مع الإيمان به فقال تبارك وتعالى:فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا 171 . [النساء:171]. وقال:إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ
وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَٔۡذِنُوهُۚ . [النور:62]. فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله"([2]). أ.هـ.
3- كذلك دلت الآيات على وجوب طاعة الرسول g بإيجاب الله تعالى طاعة الرسل، قال تعالى: وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ [النساء:64]. فطاعة الرسل إذاً هي الهدف من إرسالهم، ورسولنا g كواحد من الرسل داخل في مضمون الحكم العام فينطبق عليه الحكم بوجوب طاعته ولا سيما أن الرسل قبله كانت شرائعهم خاصة بطائفة معينة، أما رسولنا g فشريعته عامة وخاتمة، لذا كانت طاعته آكد وألزم.
4- اقتران الأمر بطاعة الرسول بالأمر بطاعة الله تعالى: قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ 32[آل عمران:32]. وقال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ [النساء:59] والناظر إلى الآيات الواردة في وجوب طاعة الرسول g يرى أن منها ما جاء بالأمر بطاعة الله مقروناً بالأمر بطاعة
الرسول بالعطف بالواو كالآية الأولى، إذ يفيد ذلك مطلق الاشتراك والجمع بينهما، أو بطريق العطف بها مع إعادة العامل إذ يفيد ذلك تأكيد عموم الطاعة في كل ما يصدر عن الرسول g ومنها ما جاء بتكرار العامل في شيئين مع العطف على الأخير بدون تكرار العامل كقوله تعالى: أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ بدون تكرار العامل في عطف أولي الأمر. وهذا يدل على أن أولي الأمر ليس لهم طاعة مستقلة، وليس لهم تشريع خاص يصدر عنهم يخالف الإسلام "وإنما يطاعون فيما شأنه أن يتلوه ويباشروه في إطار من الدين الذي شرعه الله قرآناً كان أو سنة"([3]) فطاعة الرسول إذاً واجبة في كل ما أتى به سواء كان في الكتاب الكريم أو ليس فيه.
1- أمر الله بطاعة الرسول على الإنفراد، قال الله تعالى:فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا 65 [النساء:65]. وقال تعالى:وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ 56 [النور:56]. وقال تعالى: وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ [الحشر:7]. ففي هذه الآيات نص صريح على وجوب طاعة الرسول والتسليم لحكمه واتباعه، وهذه الطاعة في حال حياته وبعد وفاته، ففي حال حياته كان الصحابة يتلقون أحكام الشرع من القرآن الذي أخذوه عن رسولهم g إذ كان يبين لهم ما أنزل إليهم، كما كان يبين لهم كثيراً من الأحكام حين تقع
لهم الحوادث التي لم ينص عليها في القرآن، فهو إذاً
يطبق لهم الأحكام من حلال أو حرام، مما كان مصدره
القرآن أو الوحي الذي يوحيه الله له يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ [الأعراف:157]. وقد حثَّ الله عز وجل على الاستجابة لما يدعو له الرسول g فقال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ [الأنفال:24]، ولم يبح الله تعالى لمؤمن ولا مؤمنة مخالفة حكم الرسول أو أمره، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا 36 [الأحزاب:36]، وقد كان المسلمون ملتزمين حدود أمره ونهيه ومتبعين له في عبادتهم ومعاملاتهم وقد بلغ من طاعتهم للرسول g واقتدائهم به أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك ولم يجز واحد منهم لنفسه مراجعة الرسول g إلا إذا كان هناك أمر غريب عن عقولهم فيناقشونه ليعرفوا الحكمة فيه فقط كما لم يجز واحد منهم مراجعته في أمر "إلا إذا كان
فعله أو قوله اجتهاداً منه في أمر دنيوي
كما في غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر في مكان النـزول"([1]) ومثل هذا إنما حدث تطبيقاً لمبدأ الشورى في الإسلام.
وإذا كان الحال هكذا في حياة الرسول g، فإنه أيضاً تجب طاعته واتباع سنته بعد وفاته، لأنه g حثَّ المسلمين أن يطيعوه ويتبعوه بعد وفاته تمسكاً بالكتاب والسنة وسيراً على هديهما فقال g: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)([2])، وكما وجب على الصحابة بنص القرآن اتباع الرسول وطاعته في حياته وبعد مماته كما في الحديث السابق وجب على من بعدهم من المسلمين اتباع سنته بعد وفاته؛ لأن النصوص التي أوجبت طاعته عامة لم تقيد في ذلك بزمن حياته ولا بصحابته دون غيرهم؛ ولأن العلة جامعة بينهم وبين من بعدهم، وهي أنهم أتباع لرسول أَمَرَ اللهُ باتِّباعه وطاعته([3])، لهذا كله تلقى الصحابة السنة النبوية وبلغوها إلى من بعدهم.
([1]) السنة ومكانتها في التشريع. ص:66.
([2]) أخرجه مالك في الموطأ (2/899) برقم3، والحاكم في المستدرك (3/ 109، 148، 533) وصححه، ووافقه الذهبي، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/180).
([3]) السنة ومكانتها في التشريع. ص:67.
([1]) الموافقات (19:4).
([2]) الرسالة للإمام الشافعي ص73.
([3]) السنة النبوية ومكانتها في التشريع ص58.
المفضلات