نظرات في جهود العلماء في تدوين السنة النبوية

أحمد بن عبدالرحمن الصويان


عدد الزيارات : 1950
من حكمة الله ـ تعالى ـ أنّه رضـي الإســــلام ديناً خاتماً لجميع الشرائع، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأكمل الله ـ عز وجل ـ لـنــا الدين وأتم علينا النعمة، قال ـ تعالى ـ:((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِـيــتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3]


ومـن إتمام النعمـة أن الله ـ تعالى ـ تكفل بحفظ مصـدر هـذا الدين وينبوعه الكـريم، فقال ـ عز وجل ـ: ((إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [ الحـجـر: 9]، وتضمن ذلك حفظ سنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، فائتمن الله ـ عز وجل ـ عـلـى نـقـلـها صحابة نـبـيه الكريم ـ عليه الصلاةوالسلام ـ، أطهر الناس قلوباً، وأصفاهم عقولاً، وأفـصـحـهــم لـســانـــــاً، وأسلمهم منهجاً، فأدوها حق الأداء، كما تحملوها حق التحمل، ورعوها حق الرعاية.. ثـم تـنـاقلـهـــا الثقات الأثبات من بعدهم جيلاً بعد جيل، بعناية فائقة وحرص كبير.

وقد تضافرت جهود السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ في خدمة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- رواية ودرايــــــة، وتركوا لنا تراثاً ضخماً غزيراً في عشرات المصنفات، حتى أصبحت هذه الأمة تمتلك بحق أغنى مورد للعلم عرفته البشرية باختلاف مللها ونحلها.

وفي هذه المقالة سأبرز بعون الله ـ تـعــالى ـ بعض جهود أولئك السلف في تدوين السنة من خلال التعريف الموجز بأشهر الموسوعات الحديثية.

وأقصد بالموسوعات الحديثية: (تلك المصنفات التي جمعت عدداً كبيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم )، ويخرج من هذا التعريف: المـصـنـفـات التي جمعت عدداً يسيراً من الأحاديث النبوية كالسنن الأربعة ونحوها.

أولاً: الموسوعات الحديثية الأصيلة:

ويـقـصــــــد بالموسوعات الأصيلة: (المصنفات التي يروي فيها المصنف الأحاديث النبوية بإسناده إلى النبي ) ومنها:

1- مصنّف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (126 ـ 211 هـ) :

وهو أحد الكتب الجليلة التي وصلت إلينا، وصفه الذهبي بأنه: (خزانة علم)(1). وصدق ـ رحمه الله ـ، فـالـمـصـنـف مليء بكنوز العلم والمعرفة، وقد رتبه عبد الرزاق على الأبواب الفقهية، فبدأ بكتاب الطـهـارة، ثم كتاب الحيض، ثم كتاب الصلاة.. وهكذا حتى ختمه بكتاب الجامع. وتحت كل كـتـاب يـوجــــــــد عـدد من الأبواب التي تضم مجموعة من الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة.

طـبـع الـكـتاب لأول مرة في سنة (1392هـ) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي في أحد عشر مجلداً، وبلغ عدد أحاديثه حسب ترقيم المحقق (21033) حديثاً، ويحتوي الكتاب على أحاديث مكررة كثيرة(2).

وقد عمل الـبـاحـث يوسف بن محمد صديق على استخراج زوائد مصنف عبد الرزاق على الكتب الستة في رسالة علمية لنيل شهادة الدكتوراه، وبلغ عدد الزوائد: أربعة عشر ألف حديث زائد(3)

وهـذه نـسـبـة عـالـيـة جداً، ولكن خلال تتبعي لهذه الزوائد تبيّن لي أن 80% منها تقريباً أحاديث موقوفة ومقطوعة.

وبالجملة: فإن المصنّف كـتـاب نـفـيس، وسفر عظيم يحوي من الكنوز ما لا حصر له ولعل من أهم مميزاته علو إسناده، وكونه مرجعاً أساساً لكثير من كتب السنة المتأخرة. ولكنه مع ذلك يحوي عدداً كبيراً من الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة أحياناً.

2- مصنّف أبي بكر بن أبي شيبة (159 ـ 235هـ):

وهو من أجلّ كتب ابن أبي شيبة ، وأعلاها منزلة ومقداراً، امتدحه ابن كثير وامتدح مؤلفه بقوله: (أبو بكر بن أبي شيبة أحـــد الأعــــلام وأئمة الإسلام ، وصاحب المصنّف الذي لم يُصنّف أحد مثله قط، لا قبله ولا بعده)(4) ووصفه الذهبي بقوله: (سيّد الحفاظ، صاحب الكتب الكبار: المسند والمصنف والتفسير)(5).

وقــد شهد لابن أبي شـيـبة بجودة التأليف وإتقانه عدد من الأئمة، منهم أبو عبيد القاسم ابن ســلام حـيـنـمـا قـال: (ربانيو الحديث أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل، وأحسنهم سـياقـة للحديث وأداء: علي بن المديني، وأحسنهم وضعاً لكتاب: أبو بكر بن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث من سقيمه: يحيى بن معين(6).

وقال الرامهرمزي: (وتـفـرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة الترتيب وحسن التأليف(7).

طبع الكتاب في الهند في خمسة عشر جزءاً على عدة مراحل، ولكن يوجد فيه نقص ظاهر، ثم طـبـع في لبنان طبعةأخرى، ولكن كلا الطبعتين لا تخلوان من سقط وتحريف. وقد بدأ بعض الـبـاحثين أخيراً في تحقيقه ومراجعته على أصوله الخطية وتخريج نصوصه، ونشر منه المجلد الأول فقط.. ونرجو أن يتيسر نشر بقية أجزائه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

والمصنف مرتـب حـســب الأبـواب الفـقـهية، ويحتوي على مادة خصبة جداً، وهو مصدر رئيس لمعرفة فتاوى الصحابة والتابعين وتابـعـيـهم. ويمتاز بأنّه مصدر تاريخي مهم جداً ـ يغفل عنه بعض الباحثين في الدراسات التاريخية ـ لاحتوائه على بعض الكتب التي يقلّ وجودها في كتب الحديث، مثل: كتاب التاريخ، وكتاب الفتن، وكتاب الجمل.

3- مسند الإمام أحمد بن حنبل (164 ـ 241هـ) :

ألّف الإمام أحمد مسنده من أجل أن يكون: (هذا الكتاب إماماً، إذا اختلف الناس في سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُجع إليه)(8).

وصدق الإمام أحمد فإن هذا الكتاب الجليل من أكـبـر كـتـب الـسـنــة التي وصـلـت إلينا، وأعظمها نفعاً، وأغزرها مادة، وقد قال أبو موسى المديني: (هذا الـكـتــاب أصــل كـبـير، ومـرجـــع وثيق لأصحاب الحديث، انتُقي من أحاديث كثيرة، ومسموعاتٍ وافرة، فجُعل إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجأ ومستنداً)(9).

ومن أجـــل هذا لما سئل أبو الحسين اليونيني: أنت تحفظ الكتب الستة؟ فقال: (أحفظها وما أحفـظـهـا!) فقيل له: كيف هذا؟! فقال: (أنا أحفظ مسند أحمد وما يفوت المسند من الكتب الستة إلا قليل)(10).

وقد اختلف في عدد أحاديث المسند اختلافاً كثيراً، فمن قائل: بأنه ثلاثون ألف حديث، ومن قائل: بأنه أربعون ألفاً، ومن قائل: بأنه خمسون ألفاً(11). قال ابن عساكر: (والكتاب كبير العدد والحجم، مشهور عند أرباب العلم، تبلغ عدد أحاديثه: ثلاثين ألفاً سوى المعاد، وغير ما ألحق به ابنه عبد الله من عالي الإسناد)(12). وقال أحمد شاكر: (هو على اليقين: أكثر من ثلاثين ألفاً، وقد لا يبلغ الأربعين ألفاً)(13).

رتبه الإمام أحمد على مسانـيـد الصحابة، حيث أفرد أحاديث كل صحابي على حدة من غير نظر في موضوعاتها، فـبـدأ بمسـانيد العشرة المبشرين، ثم مسانيد عبد الرحمن بن أبي بكر، وزيد بن خـارجــــــة، والحارث بـن خزيمة، وسعد مولى أبي بكر، ثم مسانيد أهل البيت، ثم بني هاشم، ثم المشهورين من الـصـحــابة.. وهكذا حتى ختمه بمسند القبائل.

ولكبر حجم الكتاب وصعوبة البحث فيه؛ قام الـشـيــخ أحمد البنا بترتيبه على الأبواب الفقهية مع حذف الأسانيد والأحاديث المكررة، وسـمـى كـتـابـه: (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني)، ثم ذيل كتابه بشرح موجز سـمـاه: (بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني).

كما قام الشيخ أحمد شاكر بتحقيق المسند وترقيمه وتخريج أحاديثه ومراجعته على بعض الأصول الخطية، ووضع فهارس علمية في نهاية كل جزء على حدة، ولكنه توفي ولمّا يكمل تحقيقه، حيث أخرج ستة عشر جزءاً فقط، وهي تمثل ثلثالكتاب تقريباً.

ثم قـــــام الشيخ شعيب الأرنؤوط بإعادة تحقيقه وتخريجه ومراجعته على بعض الأصول الخـطـيـة، وطُبع منه حتى الآن خمس وعشرون مجلداً، ولا زال العمل فيه جارياً حتى الآن، نسأل الله ـ تعالى ـ أن ييسر إتمامه.