الالهة مريم العذراء

بقـلم حمـيد النابلسي


لما تغير دين المسيح وصدف من عبادة الله وحده والكفر بمن سواه إلى عبادة الأهواء والأصنام والأخشاب ومعاداة من والاه وغدا دين المسيح ودين التوحيد دين فلسفة وتجسيد ، اختلفت الطوائف النصرانية اختلافا شديدا في أمر مريم العذراء عليها السلام ، وتقسموا وتفرقوا وسلكوا طرائق قددا وأفكارا عوجا.

فمنهم من قال : إنها إلهة قد تم التخصيب الرباني في رحمها وترعرع الرب في أحشائها بين أضلعها إلى أن شق فرجها ، فأخذته بين يديها ، وضمته لصدرها ، وألقمته ثديها ، لتكون أم الإله الابن الذي ولد من قبل الاب الذي هو الابن نفسه ، وهؤلاء الثلاثة : الاب الإله والأم الإلهة والابن الإله هم أجزاء مشتركة في تكوين الذات الإلهية الواحدة ، وقالوا لابد لأم الإله أن تكون إلهة من نوعه وشكله ، لأن الإنسان يلد الإنسان والحيوان يلد الحيوان والآلهة تلد الآلهة .

ومنهم من أنكر هذا وكفر ولعن أهله وقال : إنما زعم ذلك قديما من قبل بعض الطوائف المهرطقة المتطرفة الخارجة عن ملة المسيح ، والحقيقة هي أن ماري لا تتعدى كونها إمرة نزل الرب من عرشه وكرسي عظمته ودخل فرجها فأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن ليخرج من حيث دخل رضيعا ضعيفا صغيرا يمص الثدي ويتبول ويتغوط إلى أن بلغ أشده فلطمت اليهود خده وبصقوا في وجهه وعروه ومزقوا ثيابه فوق ظهره وصفعوه وألبسوه إكليلا من شوك ولباسا قرمزيا ليخنثه وسمروه وصلبوه وعدلوه باللصين وأذاقوه أعظم الآلام ليخلص البشرية من ذنب لم تفعله أصلا وإنما لفق لها من قبله وحملها وزر أبيها آدم عليه السلام الذي لم تشاهده عندما أخطئ خطيئته وكذلك ليخرج أرواح الأنبياء التي كانت في سجن الشيطان في جهنم الشيطان تحرق وتعذب بسبب خطيئة آدم عليه السلام .

قلت : وهذا ما جعل الملاحدة والعلمانيين والفلاسفة يتمسكون بما هم عليه من ضلال ، إذ أنهم شرحوا لهم دين المسيح على هكذا طريقة .

ثم إنا نرى أن هذا الشق الأخير ليس بأفضل من ثوءمه إذ أنه أهوج مثله وليس ثمة فرق بينهم ، لأن الزاعمين الأولين أقروا بألوهية مريم العذراء بألسنتهم وأعلنوا ذلك بأفواههم ، وهؤلاء الآخرين أقروا بها بحال حالهم وظاهر أفعالهم وقالهم ، إلا أنهم لم يعلنوا ألوهيتها هكذا لفظا صريحا '' الإلهة ماري '' وإنما قلبا وقالبا حيث نجدهم قد إتخدوا لها أشكالا من حجارة فهم لها عابدون وتصاوير قد علقة على جدران الكنائس فهم لها راكعون ساجدون ، متوجهين إليها قائلون :

" السلام عليك يا مريم " يا ملكة السماء ووالدة الله ، يا سيدة العالم ، يا قديسة مريم ، يا والدة الله ، يا ممتلئة نعمة ، صلّي لأجلنا نحن الخطاة ، الآن وفي ساعة موتنا.. يا أم الله وشفيعتنا ، لك ننحني ونخضع ، خلصنا بك وبابنك الإله من خطايانا .

السلام عليك أيتها الملكة ، أمّ الرحمة والرأفة ، يا حياتنا ، حلاوتنا، ورجاءنا.
إليك نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء ، و نتنهّد نحوك نائحين وباكين ، في هذا الوادي ، وادي الدموع ، فلذلك يا شفيعتنا ، انعطفي بنظرك الرؤوف نحونا ، وأرينا بعد هذا المنفى ، يسوع ثمرة بطنك المباركة ، يا حنونة ، يا رؤوفة ، يا حلوة ، يا مريم البتول ، صليّ لأجلنا يا والدة الله القديسة ، لكي نستحق مواعيد المسيح.

يا قديسة مريم، يا معونة المحتاجين ، امنحي القوة للضعفاء ، عزّي الحزانى اعضدي الاكليروس ، تشفّعي بالمكرّسين ، إنّ كل من يطلب معونتك يا مريم ، يختبر حمايتك التي لا تكّل.

يا سلطانتنا وأمنا، إنّا نقدّم لكِ ذاتنا بكلَّيتِها ، وإظهاراً لصدق خدمتنا لك ، نكرّس لك اليوم ، نظرنا وسمعنا وفمنا و ذاتنا بكلَّيتِها ، وبما أنا خاصّتك ، أيتها الأمّ الحنون ، احفظينا وحامي عنا كعباد لك و خاصّتك ، يا أمّ الله إنا نعلم أننا لا نستطيع أن ننجز شيئاً بقوّتنا الذاتية ، في حين أنكِ تستطيعين عمل كلّ ما هو متوافق مع إرادة ابنك .

أيتها البتول الطاهرة، يا أمّ الرحمة ، يا شفاء المرضى ، يا مُعزيّة الحزانى ، أنتِ تعرفين احتياجاتنا ، مشاكلنا، وآلامنا ، انظري إلينا بعين الرحمة .

ونقتصر على سرد هذا القدر خشية الإطالة ولو كان مثل هذا الالضلال بآلاف السطور في كتبهم ومواقعهم ، والموضع ليس موضع ذكره كله.

ويمكننا يا ساده أن نستخرج عصارة وزبدة تحزقلاتهم من هته النصوص المسرودة أدناه لتكون على الشكل التالي:

لك ننحني ونخضع ، خلصنا من خطايانا ، يا رجائنا إليك نصرخ و نتنهّد نحوك نائحين وباكين انعطفي بنظرك الرؤوف نحونا ، يا معونة المحتاجين ، امنحي القوة للضعفاء فإنّا نقدّم لكِ نظرنا وسمعنا وفمنا وذاتنا بكلَّيتِها ، وإنّ كل من يطلب معونتك يا مريم ، يختبر حمايتك التي لا تكّل ، فاحفظينا وحامي عنا كعباد لك و خاصّتك ، وإنا لنعلم أننا لا نستطيع أن ننجز شيئاً بقوّتنا الذاتية ، في حين أنكِ تستطيعين عمل كلّ شيء ، فيا شفاء المرضى إنظري إلينا بعين الرحمة آآآمين .

أو ليست هذه إلهة تعبد مع الله ؟؟
فما معنى لك ننحني ونخضع خلصنا من خطايانا ؟
ثم و إنعطفي بنظرك الرؤوف نحونا وحامي عنا كعباد لك و خاصّتك ؟؟
وإنا لنعلم أننا لا نستطيع أن ننجز شيئاً بقوّتنا الذاتية ، في حين أنكِ تستطيعين عمل كلّ شيء ؟؟

أو ليس هذا ذل وإفتقار ومسكنة وإعتراف وإقرار بالضعف لمن له القوة المطلقة ؟ وكلنا أيقن أنه لا يجوز ذاك لغير الله العلي .

فما بال هؤلاء ينطرحون على عتبة رحمة صنم العذراء الذي لا ينفع ولا يضر ، راجين رحمته وشفاعته؟؟؟
هل هذا هو دين المسيح عليه السلام أم أنتم مغيبون وعن إبصار الحق عمون وعن البحث عنه غافلون ؟؟

ويا العجب كل العجب لما يقلون عبدت الأحجار والخشب إن القرآن قد أخطئ لما عنانا بتأليه مريم العذراء في الآية التي تقول :

( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)

ولننظر في بعض بقايا الوحي التي نظن أنها لم تطلها أيدي الكتبة المبدلين ، حتى نعرف ما الوصايا التي وصاهم بها السيد المسيحعليه السلام ، أعبادة الله وحده لا شريك له ، أم تقنيم الذات الإلهية وتفكيكها واللعب بها وكأنها دمية بين أيدي أطفال صغار .

1))ـ عيسى عليه السلام يقول لشيطان لا سجود ولا عبادة إلا لله وحده .

(إنجيل متى 4 ـ 8 ) : ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا 9 وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي».10 حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».

ولو كان عيسى عليه السلام وأمه إلهين لما كان ليقول له : لرب وحده تسجد وإياه وحده تعبد ، ولكان قال : بل مكتوب : لي أنا وأمي تسجد وإياهما وحدهما تعبد ، و لو كان ابن الله أو إله لما تطاول عليه إبليس حتى يعرض عليه ما صنعت يداه ، ويقول له أعطيك هذه إن سجدت لي ، أفلا يعلم إبليس أن الله هو مالك السموات والأرض وما بينهما حتى يغريه ببعض قطعها ،بل ما كان أصلا ليتجرأ على العلي ويقول له اسجد لي .

2))ـ عيسى عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده وتحقيق المحبة له .

((إنجيل مرقص 12:28ـ34))) فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» 29 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ.30 وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى.31 وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ».32 فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: «جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ.33 وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ».34 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ: «لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ
.

فما في هذا النص دليل بارز قرنه على أن عيسى عليه السلام كان دائما يوصي بإفراد الله سبحانه في ألوهوته وربوبيته وتقديس وتعظيم ذاته وتنزيهها عن الشرك والتجزيء ، وتحقيق محبته في القلب والانقياد صوبها بالفهم والعقل كما جاء ذاك في الشرائع السابقة .

3))ـ عيسى عليه السلام يقول أن النعيم المطلق والحياة الأبدية لا ينالان إلا بمعرفة الله حق معرفته ، ومعرفة رسوله .

(( يوحنا 3:17 )) " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته "


لا يظفر الإنسان بحياة أبد الاباد إلا بشرطين اثنين .

الأول : معرفة الله الحقيقي ، و المعرفة الحقيقية بالله تقرن بالتوحيد والإجلال والخضوع له وتحقيق العبودية لرب وحده وعدم التجرؤ على روحه الطيبة المقدسة بعبادة آلهة أخرى وهمية وضمها لذاته .

الثاني : معرفة رسوله ، وهي إتباعه في كل أقواله والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه ، وعدم الأخذ بقول الراهب الفلاني أو القس العلاني .

لان الآباء والرهبان والقساوسة لا يتكلمون إلا من عند أنفسهم ولذلك فهم يبتدعون ويغيرون ، وأما السيد المسيح عليه السلام فلم يكن يتكلم من هواه ولكن بما سمعه من الله كما نص على ذلك العهد الجديد .

ففي ((يوحنا 7 : 16 )) أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ:«تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي». 17 «إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي. 18 مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ. ». وفي الإصحاح(( 40:8 )) ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني ، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله .

ويوافق قوله هذا ما جاء في القران الكريم حينما قال : سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ .

فالمسيح عليه السلام لم يوصي بوصايا اتبع فيها هواه وإنما كل كلامه كان من الحق وحده الذي أرسله (( والهي وإلهكم )) إنجيل يوحنا 17:20 .