اقتطافا من مبحث بعنوان


أخلاق المسلم في الحوار مع الآخرين
بقلم د.نزار محمود قاسم الشيخ
دكتوراه تخصص فقه مقارن

للاطلاع الكامل من هنا
ط¹ط§ط±ط¶ Google Drive


آداب الحوار وضوابطه مع الآخر
إن أسلوب الحوار والمناقشة هو من أبرز الأساليب الحكيمة والبليغة التي استعملها القرآن الكريم والرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أجل الوصول إلى الحقائق عن اقتناع عقلي وارتياح نفسي، ولعل من الأدلة على ذلك: أن مادة ((القول)) وما اشتق منها كقال، يقول، وقل، ويقولون.... هذه المادة التي تدل على الحوار والمراجعة بين الناس في أمور معينة قد تكررت في القرآن الكريم أكثر من ألف وسبعمائة مرة ( ).
كما لا يخفى على متبصر ما في السنة النبوية من حوارات دارت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وغير المسلمين.
والقرآن ذكر لنا نماذج كثيرة عن الحوار، من خلالها تستطيع معرفة الآداب المتعلقة به والأخلاق التي يجب أن يلتزم بها كل من يتحاور، وقبل بيان الآداب الشرعية في أثناء الحوار، يجدر بالباحث ذكر الآداب الشرعية التي يحسن بالمحاور أن يمتلكها قبل عملية الحوار، وإليك بيانها:

تنمية مهارة الحوار قبل البدء به:
يندب للمحاور قبل البدء بالحوار مع الآخرين تنمية قدراته في الحوار، وهذا ما دأبت عليه المدارس الدينية، إذ إنها تعمل على تنمية مهارة الطلاب في الحوار وفق منهج إسلامي، وهذا الندب ليس له دليل خاص، إنما تدل عليه القواعد العامة للدين، كقاعدة جلب المصالح، لقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة آية7]، وتهيأة المسلم نفسه لمحاورة الآخرين بغية الوصول إلى الحق هو من الخير المأجور عليه؛ لأن الله تعالى كما تعبدنا بالشرائع تعبدنا بالوسائل، والقاعدة الشرعية تقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن أهم الأمور التي يحث عليها المنهج الإسلامي لتنمية الحوار ما يلي:
1_ التدرب على فن الخطابة وإلقاء المحاضرات؛ ففي الحوار يكون المحاور كالخطيب؛ يعرض فكره على الناس ويرتب أولويات الحديث، ويأتي بالأدلة لبيان الحجة.
2_ أن يتدرب على فن الإلقاء بحيث يتميز بالصوت الواضح، والنبرات القوية المتميزة المعبرة، بأن يخرج الحروف من مخارجها، ويستعين على ذلك بأن يتعلم تجويد القرآن الكريم.
3_ أن يتدرب على اختيار الألفاظ السهلة ويبتعد عن الألفاظ الجزلة؛ حتى يفهم الجميع كلامه، ولا يجدون غرابة في أسلوب التعبير، وهذا يحتاج منه الرجوع إلى قواميس اللغة، ويحتاج منه كتابة موضوع الحوار قبل البدء فيه.
ويمكن الاستشهاد هنا لما سبق بقوله الله تعالى لموسى عليه السلام عندما أمره بالذهاب إلى فرعون:
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي}.[طه آية24_28]
فهذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لما طلب منه الله تعالى الذهاب إلى فرعون ومحاورته، طلب من الله تعالى انشراح صدره، بأن يملك جرأة على مخاطبة فرعون( )،وهذا ما يحتاجه المحاور لكي يكون قوي القلب في مخاطبة الآخرين، ثم طلب من الله تعالى سلامة النطق عنده حتى يفهم آل فرعون عليه.
4_ تعلم المحاور لغة المخاطَبين: يندب للمحاور أن يتعلم لغة المحاورين ولهجاتهم، لأن اللغة هي وسيلة التفاهم، فما لم يعرف لغة الآخر ولهجته لن يعرف مقصوده، ولن يستطيع إيصال فكره له.
5_ تعويد النفس وتدريبها على قبول الحق أو رأي الآخر إن بدا ما يرجحه، وترك الباطل إن ظهر أنه كان عليه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء آية 135].
6_ فهم الموضوع المحاور فيه من كل جوانبه قبل البدء بالحوار؛ لنهي الله تعالى عن الخوض فيما ليس للإنسان علم به، في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء آية 36].
وأهم ما يجب تحقيقه عند فهم جوانب الموضوع المحاور فيه هو تحديد نقطة الخلاف التي عليها مدار النقاش.
7_ ومن أهم الآداب الشرعية المطلوبة قبل الحوار وأثناء الحوار أيضا تمحيص النية والإخلاص لله تعالى، بأن يقصد بحواره وجه الله تعالى ( )، ويعود نفسه على اللطف واللين في حواره الآخرين، وهذا له تأثير كبير في نفس المحاوَر، وهذه الأخلاق لا تأتي في ساعة الحوار فجأة، بل تحتاج إلى تدريب وتعويد النفس على تلك الأخلاق حتى يصير طبعا فيها، قال أبو البقاء الفتوحي: ((وليس حد الجدل بالمجادلة: أن لا ينقطع المجادل أبدًا, أو لا يكون منه انقطاع كثير إذا كثرت مجادلته، ولكن المجادل: من كان طريقه في الجدل محمودًا)) ( )، ثم قال: ((وفي الجملة والتفصيل: الأدب معيار العقول ومعاملة الكرام, وسوء الأدب مقطعة للخير))( ).
ويمكن الاستدلال لذلك بشاهد من القرآن وآخر من السيرة العطرة:
أ_ فمن القرآن الكريم قوله تعالى مخاطبًا موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه آية 43_44].
فهذه الآية تدل على وجوب اللطف واللين من المحاور المسلم عند محاورة غير المسلمين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ((هذه الآية فيها عبرة عظيمة: وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمِرَ أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين...)) ( ).
ب_ ومن الشواهد من السيرة على ذلك ما ذكره ابن هشام رحمه الله تعالى في قصة إسلام أسيد بن حضير فقد أمر أسعد بن زرارة مصعبَ بن عمير أن يصدق الله تعالى فيه.
قال ابن هشام رحمه الله تعالى: خرج أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير يريد به دار بن عبد الأشهل ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر... فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك! انطلق الى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.
قال فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه، قد جاءك فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟! اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره.
قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله؟! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا: له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تصلي.
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين... ( ).
فما هي الطريقة المحمودة في الجدل ؟ إليك بيانها من خلال بيان الضوبط والآداب.