بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على رسوله المبين للناس ما نـزل إليهم، وعلى آله وصحبه الذين اتخذوا سبيله شرعة ومنهاجا.

أما بعد:

فإن القرآن الكريم هو أعظم رسالة سماوية وأعلاها مكانة، وأجلّها معجزة، وأكملها نظاما ومنهجا، وقد تولى الله سبحانه وتعالى حفظه بقوله: :start-ico إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وكان هذا الوعد الإلهي مزية للقرآن الكريم من بين الكتب السماوية، حيث بدلت تلك وحرفت، والقرآن ما زال ولم يزل أهله يحفظونه في صدورهم ومصاحفهم، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار وينفذونه جيلا بعد جيل، في حياتهم الفردية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، بل وفي جميع جوانب الحياة البشرية، ويتفرغ عبر القرون ثلة من خيارهم لدراسته وتفسيره واستنباط أحكامه، ومعرفة ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، والاعتبار بدعوته وقصصه، ووعظه وإرشاداته، بل ولأجل هذا الكلام المعجز يتوسعون في العلوم والفنون الأخرى كي يتمتعوا ببلاغته وفصاحته، وإعجازه، ولكي يظهروا الفرق الشاسع بين كلام الخالق والخلق، فما من سورة من سوره ولا آية من آياته ولا كلمة من كلماته إلا ويدور حولها بحث بألسنة الباحثين والمؤلفين وأقلامهم.

وقد شرف الله بهذا الكلام المعجز للعالم محمدا خاتم النبيين، وجعله مبينا لما أجمل فيه وشارحا ما يحتاج إلى الشرح بقوله: :start-ico وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ وجعل عبء مسئوليته وثقل رسالته من بعده على عاتق أمته وكاهل علمائها، وهم الوارثون رسالته حيث يقول: :start-ico قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فكان كل فرد من مخلصي الأمة الإسلامية يتنافس مع غيره في أخذ نصيبه من الميراث، ويسابق الآخرين للاشتراك في أداء الرسالة

لهذا

إن موضوع هذه المناظرة التي بين يدينا، وهي نواسخ القرآن، أو الناسخ والمنسوخ في القرآن من أهم الموضوعات وأجلّها قدرا في شريعتنا الغراء، لأن مدار هذا الدين كتاب الله سبحانه وتعالى، فما ثبت فيه محكما غير منسوخ نفذناه، وعملنا به، وما كان منسوخا منه لم نعمل به ومعرفة ذلك مهمة كبيرة ومسئولية عظيمة، وهي في نفس الوقت شاقة جدا لا يستطيع الإنسان الحكم فيها بعقله وتفكيره مهما كان ولا يمكن ذلك إلا بنقل صحيح ثابت عن صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، ولا مجال للعقل أو الاجتهاد فيها، كما لا يجوز للإنسان أن يتصرف في مثل هذا الموضوع الحساس، بآرائه البحتة غير مستند إلى كتاب الله أو سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو أقوال الصحابة المحكية عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بسند صحيح ثابت خال من الجرح والعلة.

لذا كان السلف الصالح يرى معرفة الناسخ والمنسوخ شرطا في أهلية المفسر للتفسير والمحدث للحديث، وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، لا يرضون لأحد أن يتحدث في الدين إلا إذا كان عارفا وعالما بالناسخ والمنسوخ من القرآن ، وقد جاء في الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، بأنه كان يفسر قوله تعالى :start-ico وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا بأن الحكمة معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.

يقول يحيى بن أكثم التميمي، رحمه الله، وهو أحد عظماء السلف المتوفى سنة 242هـ: (ليس من العلوم كلها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلمين، وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه، لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا والعمل به واجب لازم ديانة، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهي إليه، فالواجب على كل عالم، علم ذلك لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله).

ويقول الإمام ابن حزم الظاهري المتوفى سنة 456هـ: (لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين، لأن الله عز وجل، يقول: :start-ico وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ

وقال تعالى: :start-ico اتَّبِعُوا مَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
فكل ما أنـزل الله في القرآن، وعلى لسان نبيه فرض اتباعه. فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ، فقد أوجب أن لا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف إلى أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل
...).

ويقول ابن الحصار علي بن محمد الأنصاري المتوفى سنة (611هـ) إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول آية كذا نسخت كذا.

قال: وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صحيح ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده، صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد

وقد سعى أعداء الإسلام كالملاحدة والمستشرقين والمبشرين من أهل الكتاب بأن يتخذوا بجهالة وحقد من النسخ أسلحة مسمومة محاولين الطعن بها بالباطل في صدر الدين الحنيف، وحاولوا أن ينالوا من قدسية القرآن واجتهدوا بجهل في إقامة الحجج البراقة ونشروا شبهاتهم محاولين أن ينالوا من مطاعنهم ليسحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم من المسلمين لجحد وقوع النسخ.

لكنهم تناسوا أن إثبات النسخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله تعالى في تربية الخلق وسياسته للبشر وابتلائه للناس بتجديد الأحكام مما يدل بوضوح على أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، النبي الأمي لا يمكن أن يكون مصدرا لمثل هذا القرآن، إنما هو تنـزيل من حكيم حميد.

يتبع....