التعايش مع الذل .. ذلٌّ أكبر

بقلم/ سامي عبد الرؤوف عكيلة
رئيس نادي صناع الحياة _غزة


شكى لي أحد عمال الأبراج في غزة معاملة ربه في العمل,
ومما أخبرني به أنه يعمل منذ أن كان طفلاً
بأجر لا يتعدى ال 600 شيكل شهرياً, وبدوام يومي مفتوح وبدون إجازات.
سألته ولماذا لم تتخلص من الظلم الواقع عليك حتى الآن؟!, فأجاب بأن المحاولات لن تؤدي
لأي تغيير نحو أفضل بل قد تفقده مصدر رزقه, فغالباً لن يجد عملاً آخر, وإن وجد فلن يكون أفضل.
وعندما سألته وهل حاولت فعلا وفشلت؟! فقال لا لم أحاول!
مصيبة هذا الرجل الذي يعمل بنظام السخرة _وما أكثر أمثاله_ هي مصيبة الأمة منذ سقوط آخر
معاقلها في غرناطة عام 897 هـ _1492م.

هناك مرحلة ثانية يتحدث عنها علماء النفس يدخلها الإنسان الذي يتعرض للهزيمة
وهي مرحلة التعايش مع الصدمة وتقبلها, وهي حالة وإن كانت ذات إيجابيات نفسية آنية
فإنها ذات نكسات ثقافية وحضارية خطيرة على المستوى البعيد.


سقوط الأمم من بعد صعود سُنَّة من سنن الكون التي لا انفكاك عنها, فما علا طير وارتفع إلا كما طار وقع,
وللصعود وللهبوط عوامل لا تحابي سيداً ولا عبداً, ولكن ما هو أنكى من السقوط هو استمراء السقوط
والقنوع به, وتطويع النفس على تقبله, وفقدان الأمل في المحاولات كما حدث مع ذاك العامل,
وكما هو حاصل في الأمة منذ السقوط المدوي.


يروى أن أهل قرية عانوا الأمرين من سوء معيشتهم, فقرروا أن يهبُّوا للتغيير
فاعتصموا عند باب حاكمهم المعظم, وبعد ساعة من الاحتجاج تحت أشعة الشمس اللافحة في رابعة النهار,
خرج لهم مولاهم المعظم وفاجأهم بخبر مذهل وهو بأنهم بعد عام فقط لن يتألم أحد منهم وسيعيشون جميعاً
في رغد من العيش, ففرح الجمع واعتبروا أن انتظار عام ثمن زهيد مقابل حل مشكلاتهم,
وعادوا أدراجهم يجرون أذيال الأمل, إلا رجل واحد بقي في أرض الاعتصام, فسأله الحاكم المعظم:
ولماذا لم تغادر مع المغادرين؟!, ألديك طلبات أخرى؟!, فقال لا, ولكني أريد أن أسأل:
هل فعلا بعد عام ستُحَلّ مشاكل القرية جميعاً؟! فقال أنا لم أقل ذلك,
بل إن أهل القرية بعد عام سيعتادون على آلامهم!

قال مالك بن نبي: "إن خلف كل قصة استعمار شعب يهوى الاستحذاء",
فقبل سقوط الأمة وقبل احتلال أراضيها وقبل نهب ثرواتها
أنجبت الأمة نفوساً تستمرئ الخنوع للغريب فعبدَّت لدباباته وجنوده الطرقات.


في حادثة تاريخية مدهشة في عهد "المعتضد العباسي" اقترض أحد المتنفذين في الدولة مالا من عجوز
ضعيف في بغداد, وعندما طلب العجوز ماله من القائد المتنفذ رفض أن يرد المال.
حاول العجوز استرجاع حقه مرات كثيرة ولم يستطع، عندها أرشده أحد الناس إلى خياط بسيط،
حيث قيل له: إنه الوحيد الذي يستطيع أن يعيد لك مالك.

ذهب العجوز للخياط وأدهشه أنه بلا حراسة ولا خدم أو حشم, فقال له اجلس هنا وسآتيك بمالك حالاً,
ثم بعث الخياط إلى بيت الضابط، وطلب منه أن يأتيه على الفور ومعه مال الرجل.
وما هي إلا ساعة من نهار حتى جاء القائد وسلم الرجل العجوز ماله معتذرا له،
وبعد أن ذهب الضابط قال العجوز للخياط مندهشاً: كيف لرجل بسيط مثلك سلطة على هؤلاء؟!,
فأجابه الخياط: إن لي قصة مفادها أنني كنت جالساً في شرفة بيتي ذات ليلة وإذا بي أرى أحد القادة يمر
وهو على فرسه، وفي الوقت نفسه كانت هناك امرأة جميلة تمر بهدوء وحشمة،
وفجأة ترجل القائد من على ظهر جواده، وحمل المرأة بالقوة على الجواد
وانطلق بها نحو بيته بينما كانت المرأة تصرخ مستغيثة.
فنزلت من بيتي، وجمعت بعض الرجال، وذهبنا نتشفع في قضيتها،
ولكن الضابط أمر الشرطة فضربونا ضرباً مبرحاً فرجعت إلى البيت، لكني لم أذق طعم النوم،
وفيما أنا أفكر في ذلك، جاءتني فكرة أن أذهب إلى مئذنة المسجد وأؤذن للصبح،
وبالطبع فإن الضابط سيظن أن الصبح قد حان،
فيتركها لشأنها حتى لا يطلع عليه الصباح وبذلك نفك أسر الفتاة.

وفعلاً بدأت أؤذن بصوت عال وما أن أنهيت الأذان حتى رأيت الشرطة وقد أحاطوا بالجامع،
وطلبوا مني أن أذهب معهم إلى قصر الخليفة (المعتضد) وأفادوني أنه بانتظاري فذهبت إليه،
وكان ممتلئا بالغضب فبادرني قائلا: ما هذا بوقت أذان؟ أليس للبلد أحكام؟!

فقلت له: أطال الله عمر الخليفة إن أحكام البلد قد ديست بالأقدام يوم ترك للكبير أن يفتك بأعراض النساء
ولا من رادع. ثم قصصت عليه ما جرى. فأمر بإحضار الضابط والمرأة وبعد أن تأكد من الأمر،
أمر بقتل القائد، وأفرج عن المرأة, وطلب مني أن أؤذن كلما رأيت انتهاكا لحقوق الناس,
وبما أن الخبر شاع بين الضباط والرؤساء فإنهم يهابونني.

معلوم أن الإقدام لا ينقص من عمر المتقدم, وأن الإحجام لا يزيد في عمر المستأخر,
والحقوق لا تمنح ولا تهدى بل تنتزع عبر نضال مطلبي وجهاد حثيث, وليس ذلك للأمم فحسب
بل للمرأة أمام زوجها المتسلط, والعامل أمام ربه الظالم, والموظف أمام مديره الجائر..


إن بإمكان المحاولة مهما كانت بسيطة أن تصنع المعجزات, فإن الجبال من الحصى,
ومعظم النيران من مستصغر الشرر, والمياه الراكدة تحركها حصاة صغيرة, وفي حال فشل المحاولة
فإن لصاحبها شرفاً عظيماً ليس للقاعدين مثله, فشرف الوثبة أن ترضي العلا غلب الواثب أو لم يغلب.


هذا سمت الحياة, الكفاح والنضال, ولا مكان فيها للضعاف ومن لم يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر
بين الحفر, والله تعالى لا يمنح النصر لليائسين بل للعاملين والمدافعين عن حقوقهم,
وتكفي منك خطوة واحدة للأمام نحو الكوب لتشرب الماء الزلال يقول تعالى:


" .. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) المائدة

منقول