هنا أيضاً، يورد بعض أخوتنا الذين انفصلوا عن الكنيسة الرسوليّة آية واحدة يتيمة، وقد يستعينون أحياناً بآية أخرى، وهم في ذلك من "أهل الآية الواحدة"، لا يوردون إلا إياها، وقد أضحوا في موقف نفساني يجعلهم، بإيحاء من هيئاتهم التعليميّة، مستعدّين لتجاهُل كلّ النصوص الأخرى، أو تأويلها بشكل يُبطلها. يستخدم أولئك الاخوة، لمنع الصوَر والتماثيل، نصّ (سفر الخروج 20: 4).
خروج (20: آية 4)
& quot;...لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ..." من السهل هنا أن نلحظ أنَّ هذه الآية، إذا أُخِذت وحدها، تحرِّم علينا أجمعين أيّة صورة وأي نحت وأي رسم، بما فيه الصوَر الفوتغرافية والتصوير التلفزيوني والسينمائي والفيديو وكل أنواع الرسم من فني وهندسي بجميع أشكاله. وإذا استشهد المـــُــتكلم بالآية الخامسة أيضاً، فإنّه بهذه الزيادة يبرّر ما سلف ذكره من تصوير ونحت ورسم بحجّة أن الإنسان "لا يسجُد لها ولا يعبُدها". ومن السهل أيضاً أن يُجيب المؤمن: ونحن لا نعبد الصوَر المقدسة ولا التماثيل ولا نسجد لها - وهذا الكلام الصحيح.
سياق خروج (20: 4-5 أ)
يعود المسيحي أدراجه ليتبع القاعدة الذهبية في تفسير الآيات المُلهمة، وهي الرجوع إلى السياق أي النصّ الكامل حيث وردت هذه الآية أو تلك. وهذا هو سياق خروج:
آية (3) "لا يكن لك آلهة أخرى".
آية (4) "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة".
آية (5) "لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ، لأني أنا الربّ إلهك إله غيور...".
منع الأصنام أي "الشرك" أو وجود "آلهة أخرى" أمام الله
يتّضح من السياق أن الله عزّ وجلّ حرَّم أن يتخذ العبرانيون لهم "آلهة أخرى" يصنعونها تكون لهم أصناماً أو أوثاناً، بما أنه يُطالب، وهو الغيور، بأن لا يكون لهم غيره إله. وهكذا يفهم المرء أنّ السجود للأصنام ممنوع، وكذلك عبادتها. ويطمئن المؤمن في الكنيسة أنّه لا يعبد ولا يسجد لآلهة أخرى سوى الله تعالى، وأنّ الصوَر والتماثيل ليست موضوع عبادة في الكنيسة (إذا كان بعض الجهّال يعبدونها فموقفهم مُخالف لتعاليم *********.
وقبل أن نورد بعض الآيات التي تنقل إلينا أوامر من الله صريحة بصناعة صوَر وتماثيل حتى في أماكن العبادة، نلحظ أنّ مُعظم المجموعات المنشقّة عن الكنيسة الرسوليّة تصنع في مطبوعاتها صوَراً للسيّد المسيح وسائر شخصيّات الكتاب المقدّس. ومن ناحية أخرى، لا تصنع صوراً للسيّدة العذراء ولا للقديسين (في حين تضع صوَر مؤسّسيها في بناياتها ومطبوعاتها). وما صوَر العذراء والقديسين سوى إشارات ترمز إليهم، وليسَت أصناماً نعبدها ولا أوثاناً نسجد لها.
إنّ إيضاح السياق الكامل لنصّ خروج (20: 4-5 أ) يُعِدّ النفوس لقبول سائر ما ورد في الكتاب المقدّس من آيات يأمر فيها نفس الإله الذي قال "لا تصنع تمثالاً ولا صورة"، بصناعة صوَر وتماثيل بقوله تعالى، في صيغة الأمر: "اصنع". وهكذا نرى أن لا تناقض في كلام الله: منع الله تعالى صناعة الأصنام، وأمَرَ بصناعة صوَر وتماثيل تساعد المؤمن وهو بشر مكوّن من جسد ونفس، في عبادته للإله الواحد.
مع آية "لا تصنع" آيات "اصنع"
لا مُتّسع هنا لإيراد الآيات التي أمر بها الله صناعة صوَر وتماثيل، وحسبنا الاستشهاد بواحدة منها لنقابل خروج 20: 4. وما الهدف سوى وضع النصوص المقدّسة أمام أعيُن القرّاء الأعزاء - فإمّا يفعلون كما يفعل بعض الاخوة، أي يتجاهلون تماماً العمود الثاني، أو يفسِّرونه تفسيراً سلبياً "لصالح" خروج 20: 4، أو يقبلون كل الآيات ويزعمون أنّ بينها تناقضاً، أو يقبلون كل الآيات بكامل نصوصها، ويفحصون الكتب المقدّسة بنزاهة، ليكتشفوا أن لا تناقض بينها، كما اتّضح في هذا المقام: لا تناقُض بين تحريمه تعالى للأصنام ووصيّته بصناعة صوَر وتماثيل لا تكون آلهة جديدة بل أدوات لمساعدة الإنسان في تقواه.
هذا نصّ الآيتين المتوازيتين غير المتضاربتين:
قال الله لموسى:
خروج (20: 4) "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً...".
خروج (25: 18) "اصنع (أو تصنع، بمعنى الأمر) كروَبين من ذهب...".
هذا في قضية التماثيل، والنصوص المقدّسة الأخرى تتبع.
أمّا في قضية الصوَر، فهذه مقابلة أخرى:
قال الله لموسى (خروج 20: 4) "لا تصنع لك صورة ما ممّا في السماء ...".
قال الله لداود (الملوك 1 (أو 3) الفصل 5 آية 6: 32) "إنّ ابنك (سليمان) هو يبني البيت (الهيكل) لاسمي.. ونقش (سليمان) على مدارها صوَر كروبين ونخيل وزهور...".
ويكفي القارىء، أن يُطالع من نفس الكتاب المقدّس الذي حرّم الأصنام في خروج 20: 4 - الفصل 25 من سفر الخروج ذاته ولاسيّما الآيات 10 و 16 و 18 و 20 والفصل 26 (آية 22 ) والفصل 37 الآيتين 7 و 8، ومن سِفر الملوك 1 (أو 3 حسب التقسيمين اليوناني واللاتيني) الفصل 6 ابتداءً من آية 23:
& quot;وعمل (سليمان) في المحراب كروبَين من خشب..." إلى الآية 35، حيث يصف الكتّاب الملهمون بعض ما امر سليمان بصناعته، بناءً على وصية الرب، من صوَر وتماثيل في الهيكل، وأنّ سليمان غطّى الكروبيم بالذهب واستخدم الحجارة الكريمة... (فلعلّ في ذلك ردّاً على المعترضين على استخدام المعادن والحجارة الكريمة والمواد الثمينة في أماكن العبادة...).
الآيات المنسية أو المُــــغفلة: "إصنع" صوَراً وتماثيل!
هذه الآيات كثيرة، وطبيعي أنها لا ترِد في أحاديث المنشقين عن الكنيسة ولا في كتاباتهم. لذا من المُـــفيد، لا الإشارة إليها فحسب، بل الاستشهاد بها، مساعدة للمؤمنين الباحثين عن "الحقّ كلّه" وعن محتويات الكتاب المقدّس "كله" غير مكتفين بآية أو رُبع آية. وهنا نجد الإله القدير الحكيم ذاته، الذي "ليس عنده تحوّل ولا ظلّ دوران"، وهو تعالى الذي حرَّم صناعة الصوَر والتماثيل كأصنام وكآلهة من دون الله، نجده، جلّ جلاله، يأمر موسى وسليمان بصناعة صوَر وتماثيل. وهذه بعض تلك النصوص المقدّسة التي لا سبيل إلى تغطيتها ولا تحريفها ولا إلى تمييعها ولا إلى "نسفها" بنصّ خروج 20: 4.
خروج 25: 18 وتابع
قال الرب لموسى: "إصنع كروبين من ذهب صنعة طرْق... تصنع كروباً على هذا الطرف... تصنع الكروبَين على طرفيه. ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما... فأجتمع (أنا الرب) بكَ هناك... واصنع مائدة من خشب السنّط..." (راجع النصّ الكامل لخروج 25: 10-29). وورد في الآيات 30 وتابع: (قال الرب لموسى): "واصنع منارة من ذهب خالص... واصنع سُرُجَها... ومنافضها من ذهب خالص... فانظر واصنع على المثال الذي أُريك إيّاه في الجبل" (حتى آية 40).
ويُتابع الفصل 26 من سفر الخروج نفسه: "
قال الله لموسى): "واصنع المسكن... واصنع ألواحاً من خشب السنط... وانصب المسكن بهيئته التي أُرِيتَها على الجبل..." ويستمر الفصل 27 من "الخروج" مواصلاً سلسلة أفعال "اصنع": "اصنع قرون (المذبح).." (حتى آية 9). يُعطي الفصل 28 تفاصيل الثياب الكهنوتية لهرون: "اصنع (يا موسى) طوقين من ذهب..." (حتى آية 28). يتّضح أنّ الله تعالى أمر نبيّه موسى بصناعة صوَر وتماثيل وبأنه تعالى أرى موسى النموذج الذي كان عليه أن يصنع مثله.
يروي الفصل 32 من سفر الخروج أن الشعب صنع له صنماً فعاقبه الله: "قال الشعب لهرون: قُمْ: فاصنعْ لنا آلهة... أخذ هرون (شنوف الذهب) وصنعها عجلاً مسبوكاً فقالوا...". ومع أنّ ذلك الكفر والشرك تمّا، غير أنّ الله تعالى عاد فأمر موسى بصناعة صوَر وتماثيل - لا كأصنام ولا كآلهة، بل لمساعدة الشعب المؤمن لأنه بشر مكوّن من جسد ونفس:
خروج 34 : 1 وتابع
& quot;ثمّ قال الرب لموسى : انحت لك لوْحَيّ حجر ... وهو الإله ذاته الذي نهى : "
لا تصنع لك منحوتاً ..."
ويطلب الله تعويضاً عن العجل الذهبي أن يصنع الشعب "ما أمر الرب به : المسكن وخباءه...والحجاب والمائدة...ومنارة الإضاءة..."
الملوك 1 أو 3 الفصل 6 آية 23 وتابع
"صنع (سليمان، بناءً على أمر الرب) من المِحراب كروبَين من خشب ... ونقش على جدران البيت (الهيكل) على مدارها صوَر كروبين ونخيل ... ونقش على مصراعَي (الهيكل) كروبين ونخيلاً وزهوراً..". (راجع الفصل الثامن آية 6 وتابع والفصل العاشر آية 19 وتابع). وكان على جانبي المقعد (في الهيكل) يدان... وأسدان... ثمّ اثنا عشر أسداً... لم يُصنع لها نظير في جميع الممالك...".
معجزات عن طريق الصوَر والتماثيل
إذا أنكر أحد أنّ باستطاعة القدرة الإلهية أن تقوم بمعجزات عن طريق صوَر وتماثيل فليقرأ عن الحيّة النحاسية التي أمر تعالى موسى بصناعتها، لا للعبادة بل للشفاء والنّجاة.
سفر العدد 21: 5-9 "تضرّع موسى لأجل الشعب فقال الرب لموسى: اصنع لك حيّة (وهو تعالى القائل: "لا تصنع لك صورة ولا منحوتاً..."
وارفعها على سارية فكلّ لديغ ينظر إليها يحيا. فصنع موسى حيّة من نحاس...". يستنتج المرء من الحادثة المذكورة ومن شفاء كلّ مَنْ كان ينظر الى الحية النحاسية أنّ الله لم يُحرِّم صنع الصوَر والتماثيل بل الأصنام، وأنّ في بعض الصوَر والتماثيل المقدّسة بقوّة الله، قدرة على الشفاء، كما نُدرِك شفاعة القدّيسين على غِرار موسى.
النقش والنحت والرسم والتصوير ... والكتابة!
تُطلعنا العلوم التاريخية أنّ العبرانيين تكلّموا أيضاً اللغة الفرعونية وكتبوها في مصر. والمعروف عن الكتابة "الهيروغليفية" أنّها مكوّنة من صور. إذا حرّم تعالى كل صورة وتمثال (كما يتوهّم البعض)، يكون قد حرّم لا الرسم والتصوير والنحت والهندسة فحسب بل الكتابة أيضاً، بما أنّ العبرانيين في فترة سفر الخروج ذاته كانوا يكتبون الهيروغليفية، بما فيهم موسى النبي. واتضّح أيضاً من الأبحاث أنّ عدداً من أحرف اللغات الساميّة (وغيرها) من عبرية وآرامية كان أصلاً صوَراً، ويبدو أنّ حرف الباء كان شكله بيتاً مرسوماً وحرف الجيم كان له شكل جمَل، وحرف الدال كان شكله باباً وهكذا دواليك. فهل من المعقول أن يكون الإله الحكيم قد حرَّم الكتابة أيضاً؟.
رد مع اقتباس
المفضلات