بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ


[ آية 30؛ سورة النمل 27]


بحث



الصيام في الأمم السابقة


دراسة مقارنة


*..*..*

قالَ الطبريُّ في تأويلِ قوله تعالى : »كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »[1]، يَعْنِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ مَثَلَ الَّذِي فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ؛ ثم قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري : " ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ : " كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن ْقَبْلِكُمْ " ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّشْبِيهُ بَيْنَ فَرْضِ صَوْمِنَا وَصَوْمِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا " .
ورأيتُ أن أعرضَ كافة الأقوال التي وردت في مسألة " الصيام في الأمم السابقة " ... ثم نستخلص من أبحاث العلماء الرأي الذي نظن أنه صواب ونميل إليه .
ذكر القرطبي قول مجاهد إذ قال : " كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة " .
وعند ابن كثير من رواية عباد بن منصور عن الحسن قال : " والله لقد كتب الله الصيام على كل أمة خلت كما كتبه علينا شهرًا كاملاً " .
وعن ابن عمر مرفوعًا قال : " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " .

قال الإمام الرازي في تفسيره : " هَذِهِ الْعِبَادَةَ ـ الصيام ـ كَانَتْ مَكْتُوبَةً وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى عَهْدِكُمْ ، مَا أَخْلَى اللَّهُ أُمَّةً مِنْ إِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ لَا يَفْرِضُهَا عَلَيْكُمْ وَحْدَكُمْ ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ ، وَالشَّيْءُ الشَّاقُّ إِذَا عَمَّ سَهُلَ تَحَمُّلُهُ " .
وقد قال ابن عاشور : " اللَّهُ شَرَعَهَا ـ عبادة الصيام ـ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِمَنْ كَانُوا قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ ، وَشَرَعَهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّرَادَ صَلَاحِهَا وَوَفْرَةَ ثَوَابِهَا ، وَإِنْهَاضَ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَيْلَا يَتَمَيَّزَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ " .

أولاً : عهد أبي البشر والناس أجمعين آدم ؛ عليه السلام .

قال صاحب الفتح : ذَكَرَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ " آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ ، ثُمَّ تَابَ ، تَأَخَّرَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ مِمَّا بَقِيَ فِي جَسَدِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، فَلَمَّا صَفَا جَسَدُهُ مِنْهَا تِيبَ عَلَيْهِ ، فَفُرِضَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ صِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا " .

قلتُ ؛ الرمادي : وأظن أنَّ هذا القول ينسب إلى أَبي الْخَيْرِ الطَّالِقَانِيُّ نقلاً من كِتَابِهِ " حَظَائِرُ الْقُدُسِ " .
وعقب صاحب الفتح بقوله :" وَهَذَا ـ الإدعاء ـ يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ السَّنَدِ فِيهِ إِلَى مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَهَيْهَاتَ وِجْدَانُ ذَلِكَ " ، وبالتالي تسقط هذه الرواية ولا يعتمد عليها ولا يحتج بها .
قلتُ :" وإذا لم تصح هذه الرواية ولا يجوز الإعتماد عليها غير أننا نجد عند القرطبي في جامعه :" ما روي عن مجاهد بن جبر المفسر التابعي المعروف وأحد النجباء من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أن الله عز وجل كتب صوم رمضان على كل أمة " . [2]
قلتُ : إذا اعتمدنا قول التابعي الجليل ؛ تلميذ ابن عباس فيمكننا القول بأن كل أمة من الأمم السابقة قد أوجب الله تعالى عليها الصيام دون إستثناء ، لكن ينقصنا الدليل والسند لتثبيت هذا الرأي، هذه واحدة ، أما الثانية فإنه يفهم من قوله تعالى : " من قبلكم " ، أي كل مَن جاء قبلنا ، و " من " هنا للبيان . والله أعلم .

ثانياً : نوح عليه السلام ؛ كما يسميه البعض آدم الثاني .

د. محمد إبراهيم الشريف في بحثٍ له تحت عنوان : " الصيام في الأمم السابقة " قال :" ويُرجع أهل التاريخ بداية تشريع هذه الفريضة ـ الصيام ـ إلى عهد نوح النبي عليه السلام ؛ فيقولون إنه ـ أي النبي نوح ـ أول من صام رمضان لما خرج عليه السلام من السفينة " ، ثم يعقب د. الشريف بالقول :" ومن المرجح أن فريضة الصيام قد عرفت قبل هذا التاريخ ، ومعلوم أنه كان قبل نوح عليه السلام أمم وأجيال شغلت الزمان منذ نبي الله آدم عليه السلام " .
وهنا تعوزنا الأدلة المسندة لنثبت أن قبل زمن نوح عليه السلام صام الناس .

قالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ محمد عبده : " أَبْهَمَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا " .
قلتُ : وقد صدق الإستاذ الإمام فيما قاله لحكمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى ، نسعى أن نتبينها .

ثم يقول د. الشريف :" من الملاحظ أن آية سورة البقرة - آية 183 - لم تُشر في وضوح إلى كيفية صيام الأمم السابقة ، أو مقدار هذا الصوم وزمانه ، وإن كانت قد أشارت في إجمال إلى فرض الله له على السابقين ، وقد فرض الله على الأمة الإسلامية على نحو من فرضيته له على مَن سبقها من الأمم " .
قلتُ : و ما قاله فضيلة الدكتور الشريف إضافة هامة إلى قول الإمام محمد عبده ـ رحمه الله تعالى ـ ، وهكذا لا يدل ظاهر الآية القرآنية على أكثر من فريضة الصيام ووجوبه ؛ إذ ليس شيء في ألفاظ الوجوب أصرح من قول الله تعالى : " كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " [البقرة : 183] .
فقد كان الصوم مكتوبًا ومفروضًا عليهم ، ومثل كتابته وفريضته عليهم كُتِب وفُرِض على المسلمين .

بيد أن الأستاذ الإمام تعرض لأمم سابقة .

ثالثاً : مصر القديمة واليونان والرومانيون و وثنيو الهند :
عقبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ محمد عبده بعد جملته السابقة بالقول : " وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ حَتَّى الْوَثَنِيَّةِ ، فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي أَيَّامِ وَثَنِيَّتِهِمْ ، وَانْتَقَلَ مِنْهُمْ إِلَى الْيُونَانِ فَكَانُوا يَفْرِضُونَهُ لَا سِيَّمَا عَلَى النِّسَاءِ ، وَكَذَلِكَ الرُّومَانِيُّونَ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِالصِّيَامِ ، وَلَا يَزَالُ وَثَنِيُّو الْهِنْدِ وَغَيْرُهُمْ يَصُومُونَ إِلَى الْآنِ " .
وينقل الشيخ محمد رشيد رضا ؛ تلميذ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فكتبَ :" قَالَ شَيْخُنَا ـ الأستاذ الإمام محمد عبده : إِنَّ الْوَثَنِيِّينَ كَانُوا يَصُومُونَ لِتَسْكِينِ غَضَبِ آلِهَتِهِمْ إِذَا عَمِلُوا مَا يُغْضِبُهَا ، أَوْ لِإِرْضَائِهَا وَاسْتِمَالَتِهَا إِلَى مُسَاعَدَتِهِمْ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ وَالْأَغْرَاضِ ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِرْضَاءَ الْآلِهَةِ وَالتَّزَلُّفَ إِلَيْهَا يَكُونُ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِمَاتَةِ حُظُوظِ الْجَسَدِ ، وَانْتَشَرَ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَنَحْوَهُ إِنَّمَا فُرِضَ ؛ لِأَنَّهُ يُعِدُّنَا لِلسَّعَادَةِ بِالتَّقْوَى ، وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنَّا وَعَنْ عَمَلِنَا ، وَمَا كَتَبَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ إِلَّا لِمَنْفَعَتِنَا " .

قال صاحب المنار : " وَقَدْ كُتِبَ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ فَكَانَ رُكْنًا مَنْ كُلِّ دِينٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْعِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ ذَرَائِعِ التَّهْذِيبِ ، وَفِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا بِأَنَّهُ فَرَضَهُ عَلَيْنَا كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا إِشْعَارٌ بِوَحْدَةِ الدِّينِ أُصُولِهِ وَمَقْصِدِهِ ، وَتَأْكِيدٌ لِأَمْرِ هَذِهِ الْفَرْضِيَّةِ وَتَرْغِيبٌ فِيهَا " .

قال الرازي : " اللَّهُ تَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى " .

رابعاً : اليهود

القرطبي حدد أن المقصود من الآية :" هُمُ الْيَهُودُ " ؛ والإمامُ ابن عاشور تبنى قولاً واحداً ؛ إذ يقول :" وَالْمُرَادُ بِـ : " الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم " مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ – أَعْنِي ـ والقول للإمام ابن عاشور ـ الْيَهُودَ - لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْمُخَاطَبُونَ وَيَعْرِفُونَ ظَاهِرَ شِئُونِهِمْ وَكَانُوا عَلَى اخْتِلَاطٍ بِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ " .

قال صاحب المنار : " وَلَيْسَ فِي أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ ، وَإِنَّمَا فِيهَا مَدْحُهُ وَمَدْحُ الصَّائِمِينَ ، وَثَبَتَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ كَانَ مَعْرُوفًا مَشْرُوعًا وَمَعْدُودًا مِنَ الْعِبَادَاتِ ، وَالْيَهُودُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ يَصُومُونَ أُسْبُوعًا تِذْكَارًا لِخَرَابِ أُورْشَلِيمَ وَأَخْذِهَا ، وَيَصُومُونَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ آبَ [ أغسطس ] " .
ثم يقول صاحب المنار رحمه الله : " وَيُنْقَلُ أَنَّ التَّوْرَاةَ فَرَضَتْ عَلَيْهِمْ صَوْمَ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَهُ بِلَيْلَتِهِ وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ عَاشُورَاءَ ، وَلَهُمْ أَيَّامٌ أُخَرُ يَصُومُونَهَا نَهَارًا " .

خامساً : النَّصَارَى

الإمام الطبري ؛ شيخ المفسرين ذكر في موسوعته التفسيرية : قَالَ بَعْضُهُمُ : الَّذِينَ أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَنِ الصَّوْمِ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْنَا ، أَنَّهُ كَمَثَلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ ، هُمُ النَّصَارَى " . ثم أورد ذِكْرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ .

قال ابن العربي في أحكام القرآن في تأويل قَوْله تَعَالَى : " كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ " ؛ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ،
وَقِيلَ : هُمْ النَّصَارَى.
وَقِيلَ : هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ ـ عند ابن العربي ـ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِإِمْسَاكِ اللِّسَانِ عَنْ الْكَلَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا ؛ فَصَارَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ رَاجِعًا إلَى النَّصَارَى لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْأَدْنَوْنَ إلَيْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ الصَّوْمَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ إذَا نَامَ الرَّجُلُ لَمْ يُفْطِرْ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِصَوْمِهِمْ .

صاحب المنار يقول ؛ ووافقه في الرأي ابن عاشور :" وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ فِي أَنَاجِيلِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ نَصٌّ فِي فَرِيضَةِ الصَّوْمِ ، وَإِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُهُ وَمَدْحُهُ وَاعْتِبَارُهُ عِبَادَةً كَالنَّهْيِ عَنِ الرِّيَاءِ وَإِظْهَارِ الْكَآبَةِ فِيهِ ، بَلْ تَأْمُرُ الصَّائِمَ بِدَهْنِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ حَتَّى لَا تَظْهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ الصِّيَامِ فَيَكُونُ مُرَائِيًا كَالْفُرِيسِيِّينَ ، وَأَشْهَرُ صَوْمِهِمْ وَأَقْدَمُهُ الصَّوْمُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ ، وَهُوَ الَّذِي صَامَهُ مُوسَى وَكَانَ يَصُومُهُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالْحَوَارِيُّونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ وَضَعَ رُؤَسَاءُ الْكَنِيسَةِ ضُرُوبًا أُخْرَى مِنَ الصِّيَامِ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالطَّوَائِفِ ، وَمِنْهَا صَوْمٌ عَنِ اللَّحْمِ ؛ وَصَوْمٌ عَنِ السَّمَكِ ؛ وَصَوْمٌ عَنِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ ، وَكَانَ الصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ - كَــ صَوْمِ الْيَهُودِ- يَأْكُلُونَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَغَيَّرُوهُ وَصَارُوا يَصُومُونَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ ، وَلَا نُطِيلُ ـ يقول الشيخ محمد رشيد رضا نقلا من المنار ـ فِي تَفْصِيلِ صِيَامِهِمْ ، بَلْ نَكْتَفِي بِهَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ " ، أَيْ فُرِضِ عَلَيْكُمْ كَمَا فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ قَبْلِكُمْ . فَهُوَ تَشْبِيهُ الْفَرْضِيَّةِ بِالْفَرْضِيَّةِ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ صِفَتُهُ وَلَا عِدَّةُ أَيَّامِهِ ، وَفِي قِصَّتَيْ زَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ عَنِ الْكَلَامِ ؛ أَيْ : مَعَ الصِّيَامِ عَنْ شَهَوَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالشَّرَابِ وَالطَّعَامِ " .
و ابن عاشور وافق الشيخ رشيد في قوله فكتبَ : " أَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ نَصٌّ عَلَى تَشْرِيعِ صَوْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ صَوْمَ الْيَهُودِ " .
قلتُ : لم يوثق لنا الأستاذ الإمام أو تلميذه الشيخ الجليل محمد رشيد رضا ؛ وأيضا فضيلة الشيخ الموقر ابن عاشور ؛ السادة العلماء أصحاب القدم الراسخة في التأويل ؛ أقول : لم يوثق أي منهم ما لخصه لنا من الكتاب المقدس ؛ العهد العتيق ، فلم يذكر أي منهم اسم الكتاب / الإصحاح أو الإنجيل أو رقم الآية أو الفقرة ؛ مع علمي بأن فضيلة الشيخ رشيد والشيخ ابن عاشور في مواضع آخرى من تفسيرهما ذكرا ـ جزاهما الله عنا كل الخير ـ اسم الإصحاح ورقم الآية عند الإستدلال .
[ راجع : الرساله الي اهل روميه 14 / الاصحاح الرابع عشر / العهد الجديد ، و الرساله الي اهل كولوسي / الاصحاح الثاني / العهد الجديد ]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالُوا : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى " ، ثُمَّ إِنَّ رُهْبَانَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا اقْتِدَاءً بِالْمَسِيحِ ، إِذْ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ بَعْثَتِهِ ، وَيُشْرَعُ عِنْدَهُمْ نَذْرُ الصَّوْمِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَرْكُ الْأَقْوَاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْمَشْرُوبَاتِ ، أَوْ هُوَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ أَكْلَةٌ خَفِيفَةٌ " .

سادساً :
جَمِيعُ النَّاسِ .
قال الطبري : " وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ " . وهذا ما قال به ابن العربي في أحكام القرآن .

خلاصة البحث :
ونميل إلى ما قاله الطبري ؛ إذ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَ أَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَعْنَى الْآيَةِ :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فُرِضَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ،" أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ " ، وَهِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ كُلُّهُ . لِأَنَّ مَنْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ كَانَ جَعْلَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ دِينَهُ كَانَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسَلِّمَةَ ، فَأَمْرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَثَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مَنْ قَبِلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ .
*
ويختص الصيام من بين الفرائض والشعائر الدينية المتعبَّد بها بشرف إضافته إلى الله تعالى ، ونسبته إليه ، وتفرده بعلم مقدار ثوابه وعظم فضله ؛ لبعده عن الرياء والشهرة وخفائه عن الناس ، وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة ، التي ذكرها الأئمة ومنها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل قال : " يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" ، " إنما يترك طعامه وشرابه من أجلي فصيامه له وأنا أجزي به كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به ". [3] ،وقال أبو هريرة :" كل عمل ابن آدم له ، إلا الصيام هو لي ، وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، إذا كان يوم صيام أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يصخب ، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم . والذي نفس محمد بيده ، لخلوف فم الصائم ، أطيب عند الله يوم القيامة ، من ريح المسك ؛ للصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه عز وجل فرح بصومه " [4]،وإنما خص الصوم بذلك وإن كانت العبادات كلها لله سبحانه وتعالى، لما أشرنا إليه من مباينة الصوم سائر العبادات والشعائر في كونه سرًّا بين العبد وربه، لا يظهر إلا له فكان لخفائه عن الناس بعيدًا عن شبهة الرياء والسمعة، فاستحق بإخلاص صاحبه لله اختصاصَه به، وإضافته إليه دون سائر العبادات .
يقول ابن عاشور : " فَحَصَلَ فِي صِيَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُ صِيَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قُيُودِ مَاهِيَّةِ الصِّيَامِ وَكَيْفِيَّتِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ صِيَامُنَا مُمَاثِلًا لِصِيَامِهِمْ تَمَامَ الْمُمَاثَلَةِ " . [*]

˜

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع :
[1] آية 183 ؛ البقرة ؛ سورة 2.
[2] راجع "الجامع لأحكام القرآن" القرطبي 2/ 274 ، 290 دار الكتاب العربي 1387هـ - 1967م .
[3] رواه: أبو هريرة ـ وصححه أحمد شاكر في مسند أحمد : 13/239 درجة الحديث: صحيح .
[4] صححه الألباني في : صحيح النسائي : 2215 درجة الحديث : قال الألباني : إسناده صحيح .
[*] ثبت بالمراجع : .
[.1. ] الطبري؛ محمد بن جرير ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، المشهور بــ تفسير الطبري ، دار المعارف ، دون ذكر سنة النشر .
[2 . ] رضا ؛ محمد رشيد ، تفسير المنار ، الهيئة المصرية للكتاب ، دون ذكر سنة النشر .
[3 . ] ابن عاشور ؛ محمد الطاهر ، " تحرير المعنى السديد ، وتنوير العقل الجديد ، من تفسير الكتاب المجيد " واختصر هذا الاسم باسم " التحرير والتنوير من التفسير " ، دار سحنون ، دون ذكر سنة النشر .
[4. ] الرازي ؛ الإمام فخر الدين ؛ أبو عبدالله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل ، التفسير الكبير ؛ مفاتيح الغيب ، ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت ، سنة النشر : 2004م – 1425هـ .
[5. ] القرطبي ؛ أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري ، الجامع لأحكام القرآن ؛ المشهور بــ " تفسير القرطبي " ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، 1413هـ ~ 1993م
[6 . ] ابن العربي ؛ محمد بن عبدالله الأندلسي ، أحكام القرآن لابن العربي ، دار الكتب العلمية ، دون ذكر سنة النشر ، الطبعة الأولى .

˜


د. محمد الرمادي

السبت : 17 . شعبان 1433 هـ ~ 07 . يوليو 2012 م .