من كتاب قذائف الحق للإمام الغزالي رحمه الله

إن أساس بناء التوراة هو إفراد بني إسرائيل بالنسب العريق، والعلاقة الفذة على حساب غيرهم من الأمم ، واليهود يكرهون العرب كما يكرهون غيرهم من الأجناس الأخرى ، ولترسيخ هذا الكراهية كان لابد أن تعتمد على أساس ديني يصبح العرب بعده ملعونين في الأرض والسماء
فكيف يتوصلون إلى هذا الغرض ؟
إنهم يثبتون قصة طريفة يزعمون فيها أن نوحاً نبي الله والمدافع الأول عن دينه والناجى بأهله من الطوفان الطام العام، هذا النبي سكر من كثرة ما أفرط في شرب الخمر، ثم استلقى على الأرض كاشفاً سوأته، وأن أحد أبنائه رآه كذلك فضحك منه وشهر به ، فلما أفاق نوح من سكرته، وعلم بما وقع، لم يخجل من نفسه وتبذله، بل استنزل لعنة الله على من سخر منه، وهاك النص:
” وشرب (يعنى نوح) من الخمر فسكر وتعرى في خبائه، فأبصر “ حام “ أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً، فأخذ “ سام “ و “ يافث “ الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما، فلما استيقظ “ نوح “ من خمره علم ما فعل ابنه الصغير، فقال: ملعون “ كنعان “، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله “ سام “، وليكن كنعان عبداً لهم، ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن “ كنعان “ عبداً لهم .. “ (تكوين: إصحاح 9)
يقول “ عصام الدين ناصف “: ومعنى ما تقدم أن الإسرائيليين الساميين يريدون أن يتخذوا الكنعانيين عبيداً لهم، وقد كان العدل والمنطق يقتضيان ذلك النبي الجليل ألا يصب تلك اللعنة الحامية على حفيده البريء “ كنعان “ بل يصبها على ابنه الخاطئ “ حام “، وأنى له ذلك والكنعانيون هم المقصودون بأعيانهم لأنهم أصحاب فلسطين التي لبث الإسرائيليون دهوراً يحلمون بها ، ويتوقون إلى غشيان مروجها الزاهرة وجني زروعها الناضرة “ .
أي أن مؤلف التوراة مهتم بتزكية بني إسرائيل على حساب تجريح غيرهم، ومن ثم استنزل اللعنة على كنعان، حتى تبقى الشعوب المنسوبة إليه في منزلة زرية .
ولا بأس من اختلاق سبب لهذه اللعنة تذهب فيه كرامة نبي ومكانته .
إذن ليشرب نوح الخمر حتى يفقد وعيه ويكشف عورته .
ثم ليدع على حفيده بما دعا به، والحفيد المسكين لا جريرة له .
المهم أن الكنعانيين أصبحوا جنساً ملعوناً لأن دعوة “ السكران “ مستجابة !! .
وكما رأى كاتب التوراة أن يُسكر نوحاً ليصل إلى هذه النتيجة، رأى أن يُسكر لوطاً ليصل إلى نتيجة مشابهة.
إن تلويث الأنبياء شيء سهل على من هونوا الإلوهية نفسها، ولكن مزور العهد القديم هنا بلغ من الإسفاف دركاً سحيقاً، فهو لم يكتف بأن جعل لوطاً سكيراً بل جعله عاهراً .
وبمن يزنى ؟ بابنتيه : إحداهما بعد الأخرى، في ليلتين حمراوين، وهاك النص:
“ .. فسكن (يعنى لوط) في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس على الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ! هلم نسقى أبانا خمراً ونضطجع معه، فنحيى من أبينا نسلاً !! فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت مع أبى، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي اضطجعي معه، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابناً، ودعت اسمه “ موآب “ وهو أبو الموآبيين إلى اليوم “ (تكوين: إصحاح 19) .
يقول عصام الدين حفني ناصف: “ وهذا هو مربط الفرس ! لقد عرف شعبا موآب وبني عمون بصلابة الرأس وصعوبة المراس ..
“ وما انفكا منذ القدم ينصبان لحرب بني إسرائيل ويدحرانهم، وينزلان بهم أكبر الخسائر ..“ فوجب على كتاب التوراة أن “ يتلقحوا “ عليهما [ أى يرمون الناس بالباطل ] ويطلقوا ألسنتهم في أعراضهما ويلصقوا بهما أقبح المثالب “ ..
وفى سبيل ذلك لا حرج على اليهود أن يسيئوا إلى نبي كريم، وأن ينسبوا إليه وإلى ابنتيه ما يتورع عنه الحشاشون والرعاع .
المهم عندهم أن يجرحوا أعداءهم، وأن يسقطوا أنسابهم، وأن يعتمدوا في ذلك على وحي سماوي معصوم، لا يجرؤ على تكذيبه أحد !! .
“ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون “ (آل عمران: 78) .
يقول عصام الدين حفني ناصف: “ وصفوة القول أن كتاب التوراة لم يدونوا هذه القصص المسلسلة اعتباطاً، بل إنهم ابتدعوها ورتبوها ليصلوا بها إلى غاية لهم وضعوها نصب أعينهم، هي أن الله خلق الكون من أجل الأرض، وخلق الأرض من أجل بني آدم، وأنه أباد بني آدم وقطع دابرهم ما عدا نوحاً وبني نوح، واستبقى هؤلاء ليختار من بينهم ساماً ثم يختار من حفدته إسرائيل وبني إسرائيل “ .
ولقد آمن بنو إسرائيل بهذه الخزعبلات، وانتفخت أوداجهم غروراً وتبجحاً فتوهموا أنهم شعب مقدس ، جاء في سفر التثنية هذا النص: “ لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك، لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض “ (تثنية: 6: 7) .
وهذا الاعتداد القوى بالجنس والشعب هون عند اليهود كثيراً من القيم والفضائل، فإن طمأنينتهم إلى شرف الأرومة، ونبل الجرثومة جعلهم لا يبالون شيئاً عندما يقولون أو يفعلون، فهم ـ على أية حال ـ “ الأسباط “ أولاد الأنبياء، وجلية الدنيا !! .
ولا بأس عندهم من اقتراف الدنايا، أو افترائها ما دام ذلك يحقق ما يشتهون، والغاية تبرر الوسيلة