المبحث الرابع
الهجرة والثورات
تعدُّ الهجرة النبوية الفاضلة نقطة تحوُّل كبيرة في عصر الرسالة النبوية، حيث انتقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بأصحابه الكرام من دار دعوته إلى دار دولته، ومن حالة الاستضعاف من الباطل إلى حالة
الاستقواء بالحق، ومن الحال المغلق إلى الحال المفتوح، ومن الصراع أحاديِّ الجانب بينه وبين المشركين
إلى الصراع ثلاثي الجوانب بينه من جهة وبين المشركين والمنافقين واليهود.
ويمكن القول أن هنالك نوع تشابُهٍ بين الهجرة النبوية الفاضلة وبين الثورات الشعبية العربية الراهنة على ما بين الأمرين
من فروق سنوردها بعد بيان وجوه التشابه، والغاية من هذا الكلام رفعُ قيمة الجهود التي بُذلت في الثورات الشعبية الراهنة من جهة،
والتنبيه لهذه الثورات والنصيحة لها حتى لا تبتعد عن الغايات الطاهرة الجليلة التي قامت من أجلها في الأصل، ومن صور التشابه
بين الهجرة النبوية وبين الثورات العربية الشعبية ما يلي:
1. أن كلا الأمرين كان بقصد التحرُّر من الطغيان، والبحث عن الحرية لبني الإنسان، فقد كانت الهجرة بحثاً عن مكان
يُصغي أهله للدعوة بعيداً عن بطش طواغيت قريش، وكذا الثورات أرادت من خلالها الشعوب الثائرة أن توجد فئة
حاكمة صادقة قادرة على الإصغاء لآلامها وآمالها دون بطش ولا تنكيل من الأنظمة الساقطة.
2. أن كلا الأمرين كان مفاجأة للطغيان ما جعل هذا الطغيان يُسقَطُ في يده ولا يحسن صياغة الخطة المثلى لحماية مكتسباته وفساده،
فالهجرة كانت مفاجئةً لطواغيت مكة المكرمة، كما أن الثورات كانت مفاجئة لطواغيت بلادنا، قال تعالى:
(مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله فَأتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2).
3. أن كلا الأمرين رُوعيَ فيه الجانب الأمني والأخذ بالأسباب المستطاعة؛ فهذه الهجرة الفاضلة وما فيها من إخفاء
للأثر وتكتُّم وسرية وتوزيع للأدوار وتفريق للمهاجرين، وكذا الحال بالنسبة للثورات فقومٌ يعملون لها بالسرِّ،
وقومٌ يعملون بالخفاء، حتى أنه لا يجزم أحد حتى هذه اللحظة من هو المحرك الأساسي لهذه الثورات، وإن كان فيه شراكة
بين كثير من الفئات، وهذا الغموض هو الذي جعل البعض يقول بنظرية المؤامرة المعروفة، وإن كانت هذه النظرية
مردودة باعتبارات كثيرة، لعل منها: أن المؤامرة لا تحمل إلا نسبة ضئيلة من المغامرة، والذي نراه في الثورات أن أصحاب
المؤامرة (الأعداء الخارجيون) لم يحسبوا جيداً عواقب مغامرتهم، فنرجو من الله تعالى أن ينقلب السحر على الساحر،
قال تعالى: (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) فاطر: 10.
ومن هذا المنطلق يقول بعض الأغبياء متسائلين: ألا تُعدُّ الهجرة النبوية مؤامرة بين الفرس أو الروم بالتنسيق مع نبيِّ الإسلام
لحشد الحشود للقضاء على حُكام مكة؟!.. هذا في حساب الذين استولتْ عليهم عقلية المؤامرة السخيفة...
4. أن كلا الأمرين يُعدُّ تضحية بما تحمل كلمة التضحية من معاني؛ فهي تضحية بالمال وتضحية بالوطن لأجل الوطن،
وتضحية بالنفس والروح، وقد تم من خلالها التفريق بين المرء وأهله، وكانت عقيدة الولاء والبراء من أكبر العقائد التي
برزت على الساحة سواءً زمن الهجرة الفاضلة أو زمن الثورات الراهنة، ويكفي في تصوير تضحية المهاجرين ما رسمه القرآن
من بيانٍ لمكر قريش بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال: 30، وهو ذات المكر الذي مارسه الطغاة على الثائرين.
5. أن كلا الأمرين مرَّ بلحظات مفصلية حاسمة حرِجة، فالشعب يعتصم في ساحات مكشوفة كما أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه يعتصمان ثلاثة أيام في الغار في جوٍّ مكفهرٍّ شديد صعب؛
جعل أبا بكر يخاف على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل قول الله تعالى مطمئناً: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ
إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
هذه بعض وجوه التشابه بين الهجرة النبوية الفاضلة، وبين الثورات العربية الشعبية الراهنة.
وأما أوجُه الاختلاف، والتي أريد من خلالها أن أؤكد على ضرورة أن تتجاوز الثورات ضعفها والخلل القائم بها
ليلتحق النموذج العصري بالحالة الفاضلة السابقة حتى نجني النتائج الكريمة نفسها، فطالما أن هنالك نقاط التقاء؛ فإن إمكانية
الوصول إلى نتيجة إقامة المدينة الفاضلة من جديد واردةٌ وحاضرة، ولكن شرط ذلك أن تسعى الثورات لأن تتجاوز
نقاط الخلاف بينها وبين الهجرة الفاضلة، ومن نقاط الاختلاف بين الأمرين ما يلي:
1. أن هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهي هجرة النبي الأكرم، ومعلوم شرف الهجرة وشرف المهاجر فيها،
كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا هجرة بعد الفتح) رواه البخاري، فهي لا يشبهها شيء مهما
قلنا من وجوه الشبه بين الثورة والهجرة، ولكن لا ننسى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر
لنا بديلاً نسبياً عن الهجرة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ولكن جهاد ونية) رواه البخاري، فالثورة جهاد على الطغيان، وفيها نية هجر الاستبداد والاستعباد
إلا لرب العباد، هذا لمن حصلت عنده هذه النية من جماهير الثائرين.
2. أن في الثورات القائمة شيء من اختلاط الرايات، فالكلّ يحمل احتقاناً وحقداً على الأنظمة الطاغية الباغية وهذا
من الأمور المشتركة بين الثائرين نعم، ولكن لكلٍّ وجهة هو موليها، بينما الهجرة الفاضلة كانت رايتها واحدة،
والكل وجهته مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن شذَّ فإن في توجيه
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له رادعٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛
فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دُنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها؛ فهجرتُهُ إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري.
3. أن هجرة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثمرت أموراً متقدمة جداً، وكذا نطلب من الله تعالى أن تجني الثورات الشعبية كل خير،
فمن ثمار الهجرة التي نرجو أن تحلَّ بالثورات:
- جاءت الهجرة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فهل تصنع الثورات مؤاخاةً بين الشعوب وذاتها، وبين الشعوب وأنظمتها الجديدة،
وبين الشعوب وجيوشها الحرة القادمة؛ على أساسٍ من الثقة والاحترام والحب المتبادل بين الأطراف كلها؟.
- جاءت الهجرة بالوثيقة الضابطة لشؤون المدينة الداخلية والخارجية، فهل تُنتج الثورات دستوراً جديداً ضابطاً للشؤون كلها،
وينبع من معين كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟..
- جاءت الهجرة بوضع حدٍّ لليهود، وتحصينٍ كاملٍ للجبهة الخارجية، فهل تصنع الثورات نتاجاً متقدماً يحمي
البلاد والعباد من مكر يهود، ويؤسس لخطوات قادمة نحو التحرير بعد الإصلاح والتغيير؟..
لقد بذل الصحابة جهوداً مضاعفة في الهجرة، كما أن الشعوب المهاجرة لآثام الذل والهوان بذلت كثيراً من الدماء والأشلاء،
لا سيما في ليبيا وسورية واليمن ومصر وتونس، ولن يُضيِّع الله تعالى دماء المجاهدين والمهاجرين في سبيله أبداً،
قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّات تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ الله وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) آل عمران: 195.
ومن باب بيان عظيم الدور الذي قام به الثائرون على الطغاة يمكننا أن نقول:
بأن الهجرة الفاضلة أجبر الطغاة فيها محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوأصحابه على الخروج
من مكة التي يحبون، بينما الثورة أجبرَ رجالها الطاغية وبطانته السيئة على الهروب من ديارهم، فصار حال هؤلاء الطغاة بين قتيل وأسير وهارب
.
ولقد تطاول المجرمون والطغاة كثيراً فكان ربُّ العزة لهم بالمرصاد، لأجل ذلك تكمل الآيات نفسها فتقول:
(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) آل عمران: 197..
والدَّور الأكبر على هذه الشعوب الثائرة أن تُكمل المطلوب منها، وأن تُخلِّص نفسها لتَحصُل على الثمار اليانعة التي تحب وترضى.
والهجرة ليست تخلصاً من فتنة بل لإقامة مجتمع آمن ..نعم إنها ليست تخلصاً من فتنة أو فراراً من أذى، وإلا لم يكن
هنالك مبرر للمكث ثلاثة عشر عاماً في هذا الجو الملبد بسحب الكفر والاضطهاد..إن الذي يبرر هذه المدة هو تمهيد
المؤمنين بقيادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن ذهب إليه مصعب بن عمير
ليستتبع الناس ويستقطبهم للإسلام، ذلك أن إقامة الدين في مجتمع مكة أضحى دونه خرط
القتاد لما اتصف به من عناد وجبروت فلم يك يصلح لهذا الفكر، والدعوة مازالت وليدة غضة
طرية والمسلمون قلة مستضعفة، فلم يكن هنالك بد من التهيئة للدين في مكان آمن، عندئذ يقوى المسلمون وتشب الدعوة·
ولا شك أن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر
كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة وأصبح فرضاً على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن
الجديد وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه وأصبح ترك المدينة - بعد الهجرة إليها - نكوصاً
عن تكاليف الحق وعن نصرة الله ورسوله، فالحياة بها دين لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها·
وهذا الدرس هو الذي يجب أن يعيه الثوار الجدد في كل مكان.
المفضلات