غدير ... سقيا من خضم الحياة
قد تكون حياتك جدولاً صغر أم كبر ، مؤكد به سقيا لغيرك من البشر . إليكم شربة من جدولي .
يحكي زمن مر قبل عشرين عاماً حكايات جميلة ، تحفظها حنايا المخ بعناية فائقة كي لا يبددها النسيان. أستدعيها لكم .
مبدأ الحكاية أرض خلاء قرب منزلي تعج بالقمامة سكنها ضعاف النفوس فصارت وكر مخردات و بطالة .
يشتريها أحدهم من الحكومة فينظفها و يبني عليها مدرسة ترتفع أدوارها ، تجاورها جمعية خيرية تستقطب أهل الحي فيعمرونها بأموالهم و طاقاتهم. باقي الأرض تغمرها الخضرة متعة للناظرين.
ذاك جامع أبي زهرة و جمعيته الخيرية الشهيرة في النزهة ، ليس بعيداً عن مطار القاهرة .
يضع الشيخ قدمه في الجمعية و الجامع فيجعل لهما كياناً جباراً . الشيخ عز ، الاسم هو المسمى ، قوي في الحق، يحج كل عام و يؤم الناس في الجمع و التراويح و يعلم القرآن في الجامع على مدى الزمن رغم مناوشات الأمن و الجماعات الطافية على السطح . يقحمه الناس في خلافاتهم فتكون له سلطة و دعوة مقبولة بإذن رب العالمين . شدته في الحق تشد الناس إليه .
يحضر رمضان جود الزمان فيحث الشيخ المصلين على الصدقة . تنهال التبرعات و أموال الزكاة و الصدقات على الجمعية، فيتراكم بها مليون جنيه سنوياً كساء و طعام و تعليم و سد حاجات لها الله يرسل الخير مقنعاً في صدقات عباده.
ترسل له النساء في رمضان رسائل الهموم يوقّـعنها بحلي الذهب . أحياناً يجد الشيخ في نفسه قوة و في وقته فسحة فيقرأ الرسالة و يدعو لصاحبة الحاجة و يقيم مزاداً للحلية الذهبية بعد التراويح و يلح في الدعاء ، فيشتري أخ فاضل و يدفع الشيخ المال لمندوب الجمعية فيضعه في حاجة الفقراء.
*****
لي أخ وحيد (لطالما فاخر بتفرده بين النساء ، سداد حاجات) . هو المرح والشباب و أنا ما أنا عليه ، بعض طباعنا تتحرك في أفلاك مغايرة . لكن المودة تمحو الفرقة فيحلو فعله في ناظري.
استقر أخي في كندا بعد الدراسة الجامعية و هناك أكمل درجة الماجستير في هندسة الإتصالات بجانب عمله. فضل أخي عليّ عظيم ، إذ أن الحج شغل فكري زمن ، ألححت طالبة من رب الكعبة أن أزورها حاجة معتمرة . طيف بيت الله الحرام ملأ أحلامي ، أصلي أمام الكعبة ، أصلي في المسجد النبوي ، تعجبني الإشارات فأشتد في طلب محبوبي.
أجمع مالا و أتربص فالترتيب في يد القدر ، ينوي أخي الحج فيمر بالقاهرة حيث تبدأ رحلتنا .
و الحج رحلة شاقة لصحيح بدن فما بالكم بمن يصبغ الوجع كل عصب فيها . لكنني كتومة ، كل شيء مدفون بإحكام خلف التصبر . و أنا الضبط طعاماً و شراباً و عادات ، ما حفظ حياتي وقتها.
أفتش ملفات الذاكرة الخاصة بالحج ، اندثر معظمها ، عفى عليها ركام ثلاثة عشر عاماً . دروس ضاعت مني في خليط البشر و العمل .
لحظة ، ألمح منه درساً قريباً من الوجدان :
أصر الشيخ الذي استفتيناه أن نرمي الجمرات في موعدها فسعينا مع الجموع الهادرة، هناك تلتهب مشاعرهم نحو الشيطان فيرجمونه بغضب شيطاني و يرجمون من يقف في طريقهم للجمرة .
وقتها كان توازني يختل سريعاً لأقل دفعة فما بالكم بتزاحم الحجيج ، يحفظني الله بطول أخي فيدرأ عني خطر السقوط و أن أتعرض للرجم .
في اليوم التالي أتجهز للمعركة المقبلة . يصبغني اسم المولى ذكراً يلهج به قلبي طلب التيسير . هذه المرة ينزاح الناس من طريقي حتى أقف أمامها تماماً فألقيها بيسر كما هو مطلوب ثم أستن بفعل رسولي صلى الله عليه و سلم فأدعو مطولاً لنفسي و أهلي وأمتي في سكينة نواحي الجمرة بعد الرمي حتى ينغلق شق من الزمن أذن فيه المولى بالدعاء .
*****
يعدو الزمن أعواماً متراكبة ، أخي يتنقل بسبب عمله و دراسته بين الولايات المتحدة و كندا بينما تستقر العائلة و أنا معهم في القاهرة .
أتذكر رمضان مضى منذ أعوام و نقص الطعام في رمضان يعطل قوتي البدنية بشكل كبير، وحدها الصلاة الفعل ، حتى تلك تحفها المشقة. لا يحضر الفطر تحسناً. تضعف قوتي و توشك الحياة أن تغادرني فيؤازر وجودي ما أدرك وجوده إذ يشف وجودي ، يكاد يتلاشى ، يخلص حدسي إخلاصاً بيناً فأصدقه.
حدس يستشعر قلقاً على أخي و رفقته في بلاد غريبة . يحلق القلق في الأفق فيلمح خطراً لا أعرف له مصدراً.
اعتدت أن أدرأ همومي المتعددة بالصدقة ، قبس من حكمة حديث رسول رب العالمين صلى الله عليه و سلم. فإذا نفد المال استخرجت أثمن حليي ثم بعته و تصدقت . و الذهب للمرأة أخلص ألوان المال .
هذه المرة لا مال أدرأ به الهم ، أطالع صندوقي فيغل التردد خطوتي . يزعم الشح أن المال أوشك على النفاد، لأن الصندوق شبه خاو. أقاومه بشدة و أنتزع من الصندوق إسورتين ثمنهما أربعة آلاف جنيه .
بعد التراويح في جامع أبي زهرة ، أضع الإسورتين في مغلف و معهما رسالة أطلب فيها الدعاء لشباب المسلمين في بلاد الغربة ثم أرسله للشيخ و أسأل الله ذو الألطاف أن لا يضعهما الشيخ مع مندوب الجمعية بزعم الإجهاد أو غياب الوقت .
يـ(ت)ـبهر فعلـ(أساور)ـي الشيخ فيعلو منه التكبير و يطيل الدعاء في جو مهيب و يزايد عليهما حتى يدفع فيهما أخ كريم ستة آلاف جنيه .
يبالغ السرور في احتوائي ، أتأمل يدين لطالما باهيت بعملهما سابقاً . أبان عزهما لم أزينهما بخاتم أو إسورة . عظام معصم ناتئة و عضلة ساعد هزيل و جلد تشوبه سمرة هدية من الشمس أثناء العمل ، ما أفاخر به ذوي الدرجات العلمية (و أنا لي درجة علمية جامعية). خير خلق الله (صلوات المولى عليهم دائماً أبداً) عملوا و أكلوا من صنع أيديهم . لكن العجز وقت صدقتي أطبق على يداي فلم يبقَ من فعلهما إلا اللمم.
*****
الصورة التالية في سبتمبر 2001 ، أطالع التلفاز و برجي التجارة الأمريكيين يتهاويان محترقين . و الأحاسيس مزيج متضارب من التشفي في الأمريكان و القلق على الجالية المسلمة في الولايات المتحدة . نتصل بأخي للإطمئنان على سلامته و ينصحه الناصحون بمغادرة الولايات المتحدة إلى كندا أو مصر ، بينما يصر أن الأمور عنده أكثر أماناً مما هي عندنا !
هذه أيضاً مرت بسلام .
*****