د. العودة من كيب تاون: لماذا لا تكون الأمة الإسلامية أمة واحدة فعلياً وليس نظرياً فقط؟ (1/2)



الكاتب: الإسلام اليوم/ أيمن بريك

الخميس 24 جمادى الأولى 1432الموافق 28 إبريل 2011


- نمتلك كل مقومات الأمَّة الواحدة التي لا يفتقر إليها الآخرون ومع ذلك نجحوا هم وفشلنا نحن

- استخدام البلطجة والشبيحة والقناصة في قمع المظاهرات ينم عن جهل بالمتغيرات وانعدام لروح الوطنية

- لا بدَّ من التغلب على ألوان التفرق الموجودة بين المسلمين

- المشكلة في أن ينظر الإنسان في الجماعة التي ينتمي إليها على أنها معيار الحق ويزدري الآخرين

- الحفاظ على الكرامة الإنسانية هو أساس التكليف


أكَّد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة – الأمين المساعد في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- على ضرورة التغلب على ألوان التفرق الموجودة اليوم بين المسلمين، وإحياء فقه التآلف فيما بينهم بعيدًا عن الصراعات أو النزاعات والمشاحنات أو الوشايات التي تنال من وحدة الأمة الإسلامية، وتضعف قوتها.

وتساءل الشيخ سلمان - في محاضرة له بعنوان "فقه التآلف" في مدينة "كيب تاون" بجنوب أفريقيا: لماذا لا تكون الأمة الإسلاميَّة أمة واحدة بالفعل، وليس من الناحية النظرية فقط؟!! مشيرا إلى أن الأمة الإسلاميَّة فشلت حتى الآن في تحقيق الوحدة الحقيقية، وذلك على الرغم من أنها تمتلك كل مقومات الأمة الواحدة، مقارنةً بأمم أخرى توحدت على الرغم من عدم توافر مقومات الوحدة لها، ولكنها تغلبت على الصعاب وحققت الوحدة فيما بينها، لافتا إلى أن أبرز مثالين على ذلك، هما (الاتحاد الأوروبي)، والولايات المتحدة الأمريكية.

وأعرب الشيخ سلمان عن تفاؤله تجاه التحولات الإيجابية التي نشاهدها في العالم العربي، بدءًا بتونس وثورة الياسمين والانفتاح الكبير الذي تشهده هذه الدولة المغاربيَّة الإسلاميَّة العريقة، ومرورًا بمصر حيث تألَّق الحراك الشعبي وتواصل وحقق جزءًا كبيرًا من أهدافه ورسم خارطة طريق للعالم الإسلامي فرح بها الكثير من المهمومين بقضايا الأمة ومستقبلها، ومرورًا أيضًا بما نشهده في ليبيا من حالة مخاض، وإن كان عسيرًا، وقد أشرت يومًا - على سبيل الطرفة - أن حالة الولادة في ليبيا تعثرت واحتاجت إلى عملية قيصريَّة، وقصدت بالقيصرية تدخّل "حلف الناتو" فهم يسمون القياصرة -أحيانًا- ولكن ربما يكون هذا تعبيرًا عن ضخامة المولود ونضجه وأن الثمرة سوف تكون كبيرة وعظيمة.

وأضاف فضيلته: لا أخفيكم سرًّا أنني كنت قبل سنوات طويلة، وربما يشاركني الكثيرون في هذا الإحساس، نستغرب من صبر الشعب الليبي على وجه الخصوص على قيادته التي فيها الكثير من الغطرسة والحمق والبعد حتى عن الوطنيَّة، بحيث أن ثروة هذا البلد تجدها منثورة في أماكن كثيرة من العالم، ولكن لا تجدها في البلد ذاته، فلا تجد بنية تحتيَّة ولا تعليم ولا إعلام ولا حريات، وكنا نستغرب من صبر الليبيين على مثل ذلك الوضع، وكأن الله تعالى أراد أن يُبيِّن عذرهم من خلال هذه المعاناة التي عاشوها الآن مع حاكم طاغية يضرب شعبه بالقنابل العنقوديَّة، ويرمي المدن التي يقطنها المدنيون براجمات الصورايخ والمدفعية والدبابات! سواء في مصراتة أو الزنتان أو أجدابيا أو غيرها من المدن الليبية، مما يشير إلى انهيار في القيم الأخلاقيَّة، وتكشف أن الذين كانوا يهددون بحرب أهلية يريدون أن يصنعوا حربًا على شعوبهم إما أن يحكموها بالقوة أو يقتلوها ويبيدوها! وعلى سبيل المثال فقد قرأت اليوم تقريرًا عن "صنداي تايمز"، يشير إلى أن هناك الآن حالات من الاغتصاب الجماعي لكتائب القذافي في أكثر من مكان، مما يشير إلى تغلغل هذا السرطان في الجسد العربي، وأن عملية استئصاله والتخلص منه ليست بالأمر الهين أو السهل كما قد يتصور بعض الناس.

تفاؤل .. ولكن

وأردف الدكتور العودة، قائلا: وهكذا نستبشر أيضًا بما يجري في اليمن، والتي هي بلد قبلي ومسلَّح، فضلا عن كونه بلدًا ربما ليس على أفضل درجاته من حيث التقدم الحضاري والمعرفي والتقني، فأمورهم مستورة وأوضاعهم الاقتصادية بسيطة ومتواضعة، والكل كان يتوقع أن يحدث شيء ما في اليمن؛ حيث نجد الحوثيين من جهة وتنظيم القاعدة من جهة أخرى، إضافة إلى الأفكار الانفصاليَّة في الجنوب، والقبائل مختلفة، ومع ذلك عندما حدث هذا الحراك الذي يطالب بالتغيير، فإن الشيء العجيب تمثَّل في اختفاء المخاطر الأخرى، وكاد الشعب اليمني أن يتوحّد على هذه المطالب الإصلاحية التغيرية، ولم تقع حرب أهليَّة، ولكن وقع مثلما حدث في مصر ما سموه بـ "البلطجيَّة" أو "القناصة " أو العسكريين بلباس مدني الذين تبيَّن أنهم مدعومون من قوات وجهات حكوميَّة لقتل المتظاهرين، وفي ليبيا سموهم "المرتزقة" الذين جاءوا من أكثر من مكان ليقاتلوا بالمال، كما نجد في سوريا الحراك ذاته، وأن هناك من يتعرضون للمتظاهرين والذين يسمونهم بـ "الشبيحة" وهم جنود بلباس مدني يقتلون المتظاهرين والأبرياء بطريقة تنم عن تجاهل للكرامة الإنسانيَّة وانعدام لروح الوطنية ولحقوق الإنسان، ولا تنمُّ عن وعي بهذه المتغيرات ولا إدراك لطبيعة الحراك الذي يجب أن يكون



وتابع فضيلته : ولكنني متفائل بهذا الحراك مهما كان هناك من السلبيات والمصاعب والمتاعب وانتهاكات للحريات في العالم العربي مقارنة بالغرب الذي نشاهد فيه قدرًا كبيرًا من الحريات والحفاظ على حقوق الإنسان ومقدرات الأوطان والأموال والعدالة، وعلى سبيل المثال، فإنه يحكى أنه كان هناك اثنان من الإخوة من الصومال خرجوا من بلادهم حيث ذهب احدهم إلى دولة خليجية في حين ذهب الثاني إلى السويد، وبعد عشرين سنة كان الذي ذهب إلى السويد قد حصل على اللجوء ثم الإقامة ثم الجنسية وأصبح هو وملك أو ملكة السويد على قدم المساواة في كل شيء، فيستطيع أن يرشِّح نفسه لرئاسة مجلس الوزراء، أو فيما يتعلق بدوره في المستشفى أو بأي حق من حقوقه حيث يحصل عليه كاملًا غير منقوص، أما أخوه الذي ذهب إلى تلك الدولة الخليجية فبعد عشرين سنة انتهى به المطاف إلى غرفة الترحيل، ولا يعرف حتى إلى أين يُرحّل لأنه لا يوجد بلد في العالم يمكن أن يستقبله!

الإسلام.. والحفاظ على الكرامة الإنسانيَّة

واستطرد الشيخ سلمان: إننا نشعر بالغيظ والحزن والحرقة، حينما نرى بلاد العالم كيف حقَّقت قدرًا كبيرًا من التقدم والرقي والنهوض والحفاظ على الكرامة الإنسانية، في حين أننا نحن المسلمون نعاني من التخلف وإهدار كرامة الإنسان، والتي هي معنى عظيم في الإسلام، لافتًا إلى أنه ليس صدفةً أن يكون القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة محشوًّا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في مطلع الكثير من الآيات، وبعدما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لم يختف هذا الخطاب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، ولكن جاء إلى جواره خطاب آخر هو : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، مما يؤكد أن الإسلام جاء ليُعزز الكرامة الإنسانية، مشيرا إلى القصة التي رواها مسلم في صحيحه عندما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا في أصحابه فمرت عليهم جنازة فقاموا فَقِيلَ يا رسول الله إِنَّهَا جَنَازَة يَهُودِي، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا»، وفي رواية: "إن للموت لفزعة"، ولا يمنع أن يكون كلا اللفظين والمعنيين صحيحًا.

وذكر فضيلته أن الحفاظ على الكرامة الإنسانية هو أساس التكليف، فالله -سبحانه وتعالى- حافظ على كرامتنا وحريتنا ولم يقهرنا على أعظم مطلوب وهو الإيمان، فقال -سبحانه وتعالى- : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وقال -سبحانه وتعالى- : (وَهَدَيْنَاه النَّجْدَيْنِ) ، مشيرًا إلى أن هذا ليس إذنًا شرعيًّا للإنسان بأن يكفر، ولكن الإنسان مأمور بالإيمان، والذي هو أعظم المأمورات، في حين أن الشرك هو أعظم المنهيَّات، ولكن لو كان الإنسان مجبورًا على ذلك لم يكن للأمر معنى ولم يكن بين الناس فرق، فالإسلام جاء ليُكرّس قاعدة عظيمة وهي قاعدة الحرية، حتى قال الله -سبحانه وتعالى- : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّه يَرَى ) فعاتب الله تعالى أبا جهل ومن معه من المشركين بمكة الذين كانوا ينهون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أصحابه عن الصلاة، ووبَّخهم على ذلك.

أوروبا وأمريكا نموذجًا للتوحد

وأردف الدكتور العودة: إننا نرى اليوم أن أوروبا أصبحت موحدة، حيث أصبح هناك الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، فضلا عن ذلك فقد قامت الدول الأوروبية على اختلاف لغتها وثقافتها بإزالة الكثير من الحدود والسدود والجمارك فيما بينها، وأصبح لهم عملة موحدة وهي "اليورو"، واقتصاد موحد، وأجهزة أمنية متعاونة على الصعيد الداخلي، وحلف "حلف الناتو" على الصعيد الخارجي، ودستور يشبه أن يكون دستورًا موحدًا، إضافة إلى إمكانيات أخرى غير عاديَّة.

وأضاف فضيلته : وكذلك الأمر فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، والتي هي عبارة عن خمسين دولة، كل دولة بحجم مجموعة من الدولة العربيَّة والإسلاميَّة، ومع ذلك هي دولة واحدة موحدة بمئات الملايين من البشر، فضلا عن ذلك فإنه يوجد اليوم يتعلق ما يسمى بـ "الشركات العابرة للقارات"، في مجالات النفط أو الكمبيوتر أو السيارات أو الإعلام، والتي على الرغم من أن رأس مال أي منها قد يكون -أحيانًا- مليارات الدولارات، ومع ذلك تشعر بأنها من أجل المنافسة في الميدان وتحقيق المزيد من النجاح ومقاومة الظروف الاقتصادية، بحاجة إلى أن تندمج أو تتحالف مع شركات أخرى.

متى نتوحد؟!!

وأوضح الشيخ سلمان: ولذلك نجد أن الاقتصاد والسياسة والتقنية والإعلام أصبح بأيديهم، ولم يكن هذا وليد الصدفة، يقول تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ولكن من جدهم واجتهادهم، مشيرًا إلى أنه من كمال عدل الله -سبحانه وتعالى- أن الإنسان في هذه الدنيا إذا عمل حصّل نتيجة عمله حتى لو كان كافرًا، وإذا أهمل أو فرَّط أو قصر فلا يحصل إلا على ما قدم، ولو كان ابن الأنبياء ولو ملأ الدنيا ادّعاءً فإنه لن يحصل على شيء إلا إذا عمل له.

وضرب فضيلته، مثالا لذلك، قائلا: إن الكافر إذا تزوَّج ورتب أموره بشكل جيد سيبني ويكوِّن أسرة، لكن المسلم لو ظلَّ يدعو طول الليل والنهار بأن يزوجه الله ويرزقه الذرية الصالحة ولم يخطُ خطوة عملية ويبحث ويخطب ويُقدّم المهر فإنه لن يحدث شيء! لافتًا إلى أن هذه هي نواميس الدنيا جعلها الله تعالى للعباد كلهم؛ ولهذا فإنه عندما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال الله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلًا) أي : في الدنيا، فذكر الله تعالى لهم المتاع في الدنيا، مما يشير إلى أن هذا المتاع للناس كلهم؛ ولهذا قال: (وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ، فهي متاع للمسلم والكافر والبار والفاجر



وتساءل فضيلته : لماذا هناك الكثير من ألوان التفرق بين أبناء هذه الأمَّة، والتي يتعدى تعدداها مليار ونصف المليار مسلم، حيث يدخل الإسلام عدد كبير في الإسلام يوميًّا، وعلى سبيل المثال فإن عدد الذين يُسلمون يوميًّا أو أسبوعيًّا في مدينة "كيب تاون" كثر، مشيرًا إلى أن هناك من يتحدث عن تحوُّل وتقبل قوي وشديد للإسلام في هذه البلاد، ومع ذلك يظل السؤال: متى نتوحد ؟!!

الفرقة.. والاختلاف

وذكر الدكتور العودة أن حالة الحراك التي يشهدها العالم الإسلامي هي بشرى خير، مشيرا إلى أن أعظم خطر يهدد هذا الحراك، كما يُهدِّد أي مشروع إسلامي هو خطر التنازع، وليس الاختلاف؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ولم يقل: "ولا تختلفوا" ولكن قال -سبحانه وتعالى- : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن بين التفرق والاختلاف فرقًا، يقول تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) مما يشير إلى أن التفرق مذموم كله حتى التفرق الجسدي، فإذا أمكن أن نكون مجموعة واحدة فإن ذلك يكون أفضل من أن نكون مجموعتين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر بأصحابه ينزلون تحت الأشجار الواحد والاثنان والثلاثة فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ في هَذِه الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَة إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ»، فكان الصحابة -رضي الله عنهم- بعد ذلك إذا سافروا اجتمعوا وتقاربوا حتى لو وُضع عليهم بساط لوسعهم، ولا يتفرقون؛ ولهذا قال هنا -سبحانه وتعالى- : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا).

وأردف فضيلته: ولكن عندما جاء ذكر الاختلاف قال -سبحانه وتعالى- : (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) ، مما يشير إلى أنه ليس كل اختلاف مذمومًا، ولكن الاختلاف المذموم هو الاختلاف على الكتاب، واختلاف مبناه على الهوى أو العصبيَّة أو التقليد الفاسد، أما الاختلاف المبني على اجتهاد ورؤية ونظر، فهذا لا بأس به بل لا بدَّ منه، لافتًا إلى أن فضيلته على طول ما جالس الكثيرين من الدعاة والمخلصين والشباب والعلماء وطلبة العلم إلا أن فضيلته لم يجتمعْ مع أحد منهم إلا ووجد أنه ينعي ويذم الاختلاف ويتشكّى منه، ولكن هذا لا يعني أنه على صواب، لأنه ربما يذم الاختلاف وهو يريد من الناس أن يجتمعوا على رأيه هو ونظرته وأسلوبه، مما يشير إلى أنه هو من أهم أسباب الاختلاف، وذلك لأن الناس ما اجتمعوا على من هو خير منك وأفضل، فكيف لهم أن يجتمعوا عليك.

ألوان من التفرق

ثم انتقل الدكتور العودة إلى الحديث عن ألوان التفرُّق التي تعاني منها الأمَّة الإسلامية، لافتا إلى أن بعضها طبيعي ولكنه قد يتطوَّر أحيانًا بسبب سوء التعامل، أو سوء النفسيات والقلوب، مشيرًا إلى أن هناك العديد من ألوان التفرق، منها:

1 - الخلاف بين المذاهب الفقهية : المالكي أو الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو غيرها من المذاهب، موضحا أنه من الطبيعي أن يكون هذا الخلاف موجودًا، وهو موجود بالفعل منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولكن المشكلة تكمن في أن يتطور هذا إلى اختلاف أو صراع أو كره أو جدل طويل عريض لا فائدة منه، لافتًا إلى أن هذا ليس مطلوبًا ولا كان الأئمة يرضونه، موضحًا أن العلاقة بين الأئمة كانت من أبدع وأحسن ما يكون، وفي هذا درس لأتباعهم أن يكونوا إخوة في الله متحابين حتى لو كانت مذاهبهم شتى.

2 - الاختلاف بين الشعوب والقوميات : ومن ذلك الاختلاف بين الشعوب العربيَّة، حيث نجد أن هناك من يقول هذا مصري وهذا سعودي وهذا يمني وهذا مغربي وهذا صومالي وهذا سوداني وهذا جزائري، وكذلك القوميات، حيث نجد من يقول أيضًا: هذا عربي وهذا تركي وهذا كردي وهذا فارسي وهذا أفغاني وهذا إفريقي، مؤكدًا أن هذه الاختلافات بين الشعوب والقوميات موجودة وقائمة وهي جزء من سنة الله -سبحانه وتعالى- كما قال ربنا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى)، ولكن لا بدَّ وألا يكون لها تأثير على وحدة الأمة الإسلاميَّة، وكما يقول الشاعر :

الناسُ مِن جِهَة التِمثالِ أكفاءُ
أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ

فإن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ
يُفاخِرونَ بِه فَالطينُ وَالماءُ

ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ
عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ

وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُه
وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ

وأكَّد فضيلته أن الإسلام لم يقيِّم الناس بالشكل أو اللون، فلا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، مشيرًا إلى أنه على الرغم من ذلك فإن هناك من يقيِّم الناس أو يدعي أن الإسلام يقيمهم على أساس اللون أو العرق أو القوميَّة وهذا خطأ كبير، على سبيل المثال، فقد حدثنا أحد الشباب في "كيب تاون"، حيث قال لي : لقد جانا شخص قبل فترة، وهو شاب ربما ليس لديه علم شرعي أو معرفة صحيحة، فقال لهم : إن الجنة لا يدخلها إنسان أسود اللون فيقول إنه: صدّق هذا الكلام وتأثر به وجلس ليالي لا ينام الليل ! فقلت له : إن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لبلال بن رباح وهو من الحبشة يومًا من الأيام : « يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَه في الإِسْلاَمِ، فإني سَمِعْتُ دَفَّ نَعليكَ بَيْنَ يَدَى في الْجَنَّة»، أي : سبقتني بالدخول، هذا في الرؤية، والرؤية حق، فقال بلال : (مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا في سَاعَة لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّى)، وهذا ما يسمى بسنة الوضوء، وهي أنه كلما توضَّأ الإنسان صلى ركعتين، وكما يقول الشاعر :

ما بيننا عرب ولا عجم
مهلًا يد التقوى هي العليا

خلوا خيوط العنكبوت لمن
هم كالذباب تطايروا عميا

وطني كبير لا حدود له
كالشمس تملأ هذه الدنيا

في إندونيسيا فوق إيران في
الهند في روسيا وتركيا

آسيا ستصهل فوقها خيلي
وأحطم القيد الحديديا

ولقد كان لقمان من الحبشة، يقول تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) وربما النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول : (إن آل بني فلان لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي) أي : ناس من قرابته من قريش (إِنَّمَا وَلِيِّي اللَّه وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)، وكما يقول الشاعر :



أبو لهب في النار وهو ابن هاشم
وسلمان في الفردوس من خرسان

فلا تحسب الأنساب تنجيك من لظى
ولو كنت من قيس وعبد مدان !

وأوضح الشيخ سلمان أن هذه ثقافة، والتي هي موجودة عندنا بالفعل، يجب أن نحاربها ونصححها ونعرف أن الإنسان لا يحاسب يوم القيامة بشكله ولا بلونه أو بجنسه أو عرقه أو جسده، ولكن كما قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ) ، فالكرم هو التقوى! يقول تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)، مما يشير إلى أن النسب والقرابة لا ينفعان الإنسان يوم القيامة ولكن ما ينفعه هو عمله، مؤكدًا أن هذه المعاني يجب أن تتحوَّل من كلمات جميلة تُقال باللسان إلى ثقافة وأسلوب حياة وطريقة في التعامل، فلا يحكم الإنسان على أحد يقابله لأول وهلة من شكله ولا بساطته ولا تواضعه، فربما يكون فقيرًا في أسمال بالية وهو من أولياء الله الصالحين، وربما يكون من ورثة جنة النعيم، وفي المقابل فإنه يمكن أن يكون هذا الإنسان عظيمًا في نظر الناس وهو لا يساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وفي هذا حديث صحيح ورد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم



3 - الخلاف القبلي: حيث ينبغي التخلي عن الخلاف والتنازع بين القبائل، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ في أُمَّتِي أَرْبَعًا مِنَ الْجَاهِلِيَّة لَيْسُوا بِتَارِكِيهِنَّ، الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَة عَلَى الْمَيِّتِ»، فالطعن في أنساب الناس أو الافتخار بالأحساب مما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه أنه باقٍ، مشيرًا إلى أن هذا ليس تشريعًا له، ولكنه ذم وإخبار بأنه باقٍ ومتغلغل في نفوس كثير من العرب ويجري منهم مجرى الدم، وأن الخلاص منه صعب، لافتًا إلى أن الذين يعيشون في بيئات عربية يعرفون هذا جيدًا، حيث نجد أن العصبية والعنصرية والنسب هي أمور لا جدال عليها ولها تأصيل وتنظير وبحث واهتمام، بل هناك من يؤجِّج هذه النار ويقوِّيها ويسندها ويدعمها لغرض أو لآخر.

الجماعات الإسلاميَّة

4 - تفرُّق الجماعات والأحزاب: حتى أننا نجد الجماعات الإسلامية بكافة المسميات والأحزاب والاتجاهات بعضها بجانب السياسة، وبعضها في جانب الدعوة، وبعضها في جانب التربية، وبعضها في جانب القتال والمقاومة، إلى غير ذلك من التجمعات والتفرّق، مؤكدًا أنه لا تثريب على الإنسان أن يكون مع جماعة أو مجموعة أو حزب يتعاون معهم على البرّ والتقوى، فهذا ليس محرمًا ولو كان فيه هدى ورشد ونضج فهو داخل في عموم قوله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، وقوله سبحانه وتعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ، ولكن الإثم والتثريب هو ينظر الإنسان إلى الجماعة أو المجموعة التي ينتمي إليها على أنها معيار الحق والصواب وأن يزدري ما عند الآخرين، وأن يكون ولاؤه بدلًا من أن يكون للأئمة يصبح لهذه الجماعة حتى أن الإنسان ربما لا يرتاح وينسجم ويتحدث إلا مع جماعته وربما يوافقهم على الخطأ ويرد على من انتقدهم بشيء، وهو لم يحققْ في دخيلة نفسه أن يكون دائمًا مع الحق، في حين أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- في المدينة المنورة كان يسكن مع اليهود ويتعايش معهم كما هو معروف، وفي يوم من الأيام قال أحد اليهود: والذي فضّل موسى على العالمين فلطمه المسلم، وقال: والذي فضّل محمدًا على العالمين فشكا اليهودي المسلم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله: لماذا تلطمه؟ قال: لأنه قال كذا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ، فإن النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْه الأَرْضُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَة مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ»، حيث نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى فضيلة لموسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان النبي عليه السلام هو أفضل الأنبياء، ولكنه نهى الصحابة عن الجدل الذي من شأنه أن يوجد خلافًا أو حزازة؛ ولهذا قال: «لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ».

وأردف الدكتور العودة: وكذلك حينما قال بعض اليهود : إنكم تقولون (مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ مُحَمَّدٌ)، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وقال: «قُولُوا مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ» أي : أخذ الحق من أناس يساكنهم من أهل الكتاب من اليهود، وردَّ على بعض المسلمين الخطأ الذي ارتكبوه ولو كانوا من أتباعه، وهذا يعطي درسًا إلى أن الإنسان وإن كان ضمن مركز إسلامي أو مدرسة أو مسجد أو جماعة أو حزب أو طائفة أو ما شاء الله، فالمسميات والمظلات -التي تُظلِّل الناس من وهج الشمس وتعينهم على العمل والسعي- كثيرة، لكن عليه أن يدرك أن الخطر كل الخطر هو أن يتحول الأمر إلى عصبيات وعنصريات، أو أن يتطوَّر إلى قتال ونزاع ومشكلات الله تعالى أعلم بها.

فقه التآلف

وأوضح الشيخ سلمان أن "الأمة" في القرآن الكريم، وردت في معانٍ كثيرة، منها:

1 - الإمام والقدوة : كما قال -سبحانه وتعالى- : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة قَانِتًا لِلَّه حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وكذلك بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقولون: " إن معاذ بن جبل كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين " تأسيًا بأسلوب القرآن الكريم، مما يشير إلى أن الأمَّة معناها الإمام، كما يجوز أن يكون المقصود في الآية الكريمة أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان بمثابة أمَّة وحده، ويُبعث أمة وحده لأنه لم يكن في وقته مسلم غيره أول الأمر، فاعتبر بمثابة أمَّة كاملة لأنه يمثل اتجاه الخير، وهذا دليل ألا يستوحش الإنسان من الغربة، ومن قلة الأتباع أو الأنصار أو الأعوان، مع أن هذه الأمة أمة خير، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أُمَّتِي هَذِه أُمَّة مَرْحُومَة»، وقال -صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُه خَيْرٌ أَمْ آخِرُه»، وذكر أن أتباعه هم أكثر الأمم حتى قال -صلى الله عليه وسلم: «وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّة» فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ: «ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّة» فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ: «شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة» فَكَبَّرْنَا، فهذه الأمة موعودة أن تكون نصف أهل الجنة، وأن خمسين بالمائة من المهتدين والراشدين وسكان جنات النعيم هم من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم، فهنيئًا له بهم، وهنيئًا لهم به



2 - وقت أو أجل : أو فترة كما قال -سبحانه وتعالى- في قصة يوسف : (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِه فَأَرْسِلُونِ) أي : بعد فترة بعد زمن، وذلك على القول الراجح من أقوال المفسرين.وقيل : عن المعنى بعد نسيان، ولكن المعنى الأول أفضل (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد فترة أو مدة، مما يشير إلى أن الأمة تطلق ويُقصد بها زمان أو وقت، ولعل هذا مرتبط بأن كل أمة لها أجل، وكل قوم أو أناس أو دولة لهم أجل؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- يقول : (وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ) مثلما للإنسان أجل ويموت، فإن الدول كذلك يكون لها آجال، فليس هناك دولة تعمر مدى الحياة، وعلى سبيل المثال، فإن دولة الخلفاء الراشدين عمرت ثلاثين سنة « الْخِلاَفَة في أُمَّتِي ثَلاَثُونَ سَنَة » حديث صحيح، ودولة بني أمية عُمرت مائة سنة تقريبا إلى 132هـ، وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بدولة بني العباس، ودولة الأتراك العثمانيين.. وهكذا الدول والأمم والحضارات والشعوب اليوم، لافتًا إلى أن ادِّعاء أحد الفلاسفة الأمريكيين بنهاية التاريخ هو ادِّعاء وهمي، فالتاريخ ليس له نهاية إلا بقيام الساعة، ولكن تكون هناك تحولات وتغيرات بإذن الله تعالى، وهذه التغييرات تكون بحسب حراك الناس وجهدهم، وعلى ذلك فإن الإنسان قد يولَد ويموت على عهد شخص واحد أو دول لم تتغير ولكن هذا لا يعني أن التاريخ توقف، بل يأتي زمان تنسى هذه الأشياء حتى كأنها لم تُذكر مثلما قال القائل:

ملَكْنا أقاليمَ البِلادِ فأذْعَنَتْ
لَنا رَغْبَة أو رَهْبَة عُظَماؤها

فلما انْتَهَتْ أيّامُنا عَلِقَتْ بِنا
شَدائِدُ أيامٍ قَليلٍ رَخاؤُها

وصِرْنا نُلاقي النّائِباتِ بأوْجُه
رِقاقِ الحَواشي كادَ يَقْطُرُ ماؤُها

إذا ما هممنا أن نَبوحَ بما جَنَتْ
علينا اللّيالي لمْ يَدَعْنا حَياؤُها

فالأمة تأتي إذًا بمعنى الوقت أو الزمن.

وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة

3 - الطريقة أو الأسلوب: أو نمط الحياة والعيش الذي يعيش عليه أناس، وهذا يسمى أمة أيضًا لأن هذه الطريقة أو هذا الأسلوب يكون قدوة لأولادهم وأحفادهم من بعدهم، كما قال -سبحانه وتعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)(الزخرف: من الآية22)، أي : وجدناهم على طريقة أو أسلوب (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف: من الآية22)، (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: من الآية23) فهم قدوة لهم سواء كانت هذه الطريقة حقًّا أو باطلًا خيرًا أو شرًّا، مما يشير إلى أن الأسلوب والمنهج يُعبر عنه أيضًا بأنه "أمَّة".

4 - الجماعة أو القوم : أو الطائفة من الناس مثلما قال -سبحانه وتعالى- في قصة موسى : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عليه أُمَّة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) ، أي : وجد جماعة أو طائفة من الناس حتى لو قلّوا فقد يسمى الملايين بالأمَّة، كما قد يسمى الأفراد القلائل بالأمَّة أيضًا.

5 - الجماعة المتفقون: والمتحدين على الدين الواحد، كما نقول : "هذه الأمة"، ولقد سمانا الله -سبحانه وتعالى- أمة في القرآن الكريم في سورتين، هما : سورة المؤمنون، وسورة الأنبياء، وهما سورتان متجاورتان، يقول تعالى: (إِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ويقول أيضًا : (وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) فحدَّد سبحانه أن هذه الأمة أمة واحدة حتى وإن اختلفت شرائعها، فأمة موسى وأمة عيسى وأمة شعيب وأمة محمد -صلى الله عليهم وسلم- كلهم أمَّة واحدة على الإيمان والهدى والخير وإن اختلفت شرائعهم؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « الأَنْبِيَاءُ إِخْوَة مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ..»، وعلى ذلك فإن العقيدة لا تختلف، فعقيدة الأنبياء السابقين هي عقيدة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والبعث والجنة والنار، وغير ذلك من المعاني، ولكن الذي يختلف هو التشريع، وقوله -صلى الله عليه وسلم: (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَة مِنْ عَلاَّتٍ) أي : مثل الإخوة لأب، أمهاتهم شتى كل واحد له أم تخصه، فهذه الأم هي الشريعة، لكن أبوهم واحد والمقصود به المعنى العقدي وهو الإيمان بالله -سبحانه وتعالى، وهذا على سبيل التشبيه، لافتًا إلى أنه في كلا السياقين حذرنا الله -سبحانه وتعالى- من التنازع والاختلاف فقال : (وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ، ثم قال : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، فحذَّر من التفرق والتحزُّب بقوله (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ)، والفرح (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)