قادش ليست هي فاران
كاتب سفرالعدد يعي تماماً الفرق بين قادش وفاران، فهذه ليست هي تلك:
@ فقد ارتحل الشعب من جبل سيناء إلى قبروت هتأوة (عد 11: 34)
@ ثم ارتحلوا م نقبروت هتأوة إلى حضيروت (عد 11: 35)
@ ثم ارتحلوا من حضيروت إلى برية فاران (عد 12: 16)
@ ثم ارتحلوا من برية فاران إلى برية صين (عد 20: 1)
@ وبرية صين فيها قادش (عد 20:1)، بل هي نفسها قادش (عد 33: 36)
@ ثم ارتحلوا من قادش إلى جبل هور (عد 20: 22).
فهل قادش في فاران؟ بالطبع لا، بل قادش إنما هي في برية صين وليس فاران.
موسى أرسل الجواسيس من قادش لافاران
هكذا يقول كاتب سفرالتثنية بصيغة المتكلم على لسان موسى نفسه: "ثم ارتحلنا من حوريب وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين كما أمرنا الرب إلهنا، وجئنا إلى قادش برنيع .. فتقدمتم إليَّ جميعكم وقلتم: دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسّسوا لنا الأرض .. فحسُن الكلام لديَّ، فأخذتُ منكم اثني عشر رجلاً، رجلاً واحداً من كل سبط. فانصرفوا وصعدوا إلى الجبل، وأتواإلى وادي أشكول وتجسّسوه .. لكنكم لم تشاءوا أن تصعدوا وعصيتم قول الرب إلهكم .. فأجبتم وقلتم لي: قد أخطأنا إلى الرب، نحن نصعد ونحارب حسب كلّ ما أمرنا الرب إلهنا .. فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم في سعير إلى حُرمة .. وقعدتم في قادش أياماً كثيرة كالأيام التي قعدتُم فيها" (تث 1: 19-46).
لا يوجد أي ذِكْر لفاران هنا إطلاقاً، فبكل وضوح نجد أن موسى إنما أرسل الجواسيس من قادش التي كان مقيماً فيها بنو إسرائيل وقتها. ولما رفضوا دخول الأرض ثم ندموا، ذهبوا لمحربة الأموريين من الكنعانيين والعمالقة في جبلهم، فنزل هؤلاء ولاقوهم في سعير، وكسروهم إلى حُرمة. وظلّ القوم من بعدها في قادش أياماً كثيرة أيضاً.
ولكن هل يتفق كاتب سفر العدد مع هذا؟ يبدو أن كاتب سفر العدد إما أنه مصاب بانفصام الشخصية أو اشترك معه كاتب آخر في هذا السِفر، كما سنرى. فهو يؤكد هناصحة رواية سفر التثنية، فيذكر أن موسى نفسه قال: "هكذا فعل آباؤكم حين أرسلتُهم من قادش برنيع لينظروا الأرض، صعدوا إلى وادي أشكول ونظروا الأرض" (عد 32: 8-9). ولا وجودهنا أيضاً لبرية فاران المزعومة! ما المشكلة إذن؟
المشكلة أنه في موضع آخر قال شيئاً آخر (!) ولكن هذه المرة بصيغة الغائب وليس على لسان موسى: "ثم كلّم الربُّ موسى قائلاً: أرسل رجالاً ليتجسسواأرض كنعان التي أنامعطيها لبني إسرائيل .. فأرسلهم موسى من برية فاران حسب قول الرب .. فأرسلهم موسى ليتجسسوا أرض كنعان، وقال لهم: اصعدوا من هناإلى الجنوب .. فصعدوا وتجسسوا الأرض من بريةصين إلى رحوب في مدخل حماة .. وأتوا إلى وادي أشكول .. فساروا حتى أتوا إلى موسى وهارون وكل جماعة بني إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش .. وتذمَّر على موسى وعلى هارون جميعُ بني إسرائيل .. وكلّم الرب موسى وهارون قائلاً: حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرةالمتذمّرة عليَّ .. ولما تكلم موسى بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل بكى الشعب جداً، ثم بكّروا صباحاً وصعدوا إلى رأس الجبل قائين: هُوَ ذا نحن، نصعد إلى الموضع الذي قال الرب عنه، فإننا قد أخطأنا. فقال موسى: لماذا تتجاوزون قول الرب، فهذا لا ينجح .. لكنهم تجبروا وصعدوا رأس الجبل .. فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل، وضربوهم وكسروهم إلى حُرمة" (عد 13، 14).
ونلاحظ على هذه الرواية ما يلي:
* كان إرسال الجواسيس بأمر من الله، لكن في التثنية كان بطلب من الشعب.
* أرسل موسى الجواسيس من برية فاران، لكن في موضع آخر من العدد وفي التثنية من قادش.
* أمر موسى الجواسيس أن يصعدو "من هنا"، فصعدوا "من برية صين". ثم رجعوا إلى الشعب في "قادش". فهذه التفاصيل تتعارض مع قوله إنهم كانوا في فاران! فقد رأينا أن قادش إنما هي في برية صين لا فاران. ووجود صين وقادش في هذه الرواية يؤكّد على صحة رواية سفر التثنية، إذ لا دخل لفاران هنا. ولاأدري هل هو نفس الكاتب الذي ذكر تصريح موسى بإرساله الجواسيس من قادش في نفس السِفر؟!
من أجل ذلك، ومن باب ضرب العصافير بحجر واحد، لجأ علماؤهم إلى الزعم بوجود برية صين وقادش في فاران!! وهذا على طريقة "كلُّه على كُلُّه" .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
.. والعجب العجاب
أن كاتب سفرالعد دفي الإصحاح 33 - على فرض أنه هو نفس الكاتب - أعاد ذكر رحلات بني إسرائيل بالتفصيل: فذكربين حضيروت وقادش 18 موضعاً ليس فيها ذِكرلشيء اسمه فاران!!
فلماذا كل هذا التخبّط واللبس في شأن فاران بين سفري العدد والتثنية!!
سؤال في الصميم ، وإجابة لولبية!
يقول ولتر ك. قيصروآخرون:

Hard Sayings of the Bible, p.166
من أين انطلق الجواسيس؟
لماذا يقول سفر العدد 13: 3 أن الجواسيس غادروا من برية فاران، في حين يقول سفر العدد 32: 8 أن هذا كان من قادش برنيع؟ هل كان هذان موضعين مختلفين أم أن هناك طريقة معينة لتفسير احتمالية أن يكون كلاهما صحيحاً؟
إن برية فاران هي منطقة متعذر تحديدها جيداً في الجزء الواقع وسط وشرق شبه جزيرة سيناء، يحدّها من الشمال الغربي برية شور، ومن الشمال الشرقي برية صين، وبرية سيناء من الجنوب. ومعظم سنوات التيه الأربعين كان بنو إسرائيل مقيمين في قادش برنيع (عد 14: 34؛ تث 1: 19-20).
طبوغرافياً(!)، كان موقع قادش برنيع جزءاً من برية فاران. وفي الواقع، في السبعينة اليونانية سفر العدد 33: 36 هناك إضافة تفسيرية في المتن تقول: "في برية فاران وهي قادش".اهـ
إن هذا المرجع هو الآخر يؤكد لنا من جديد - كما تأكّد لنا مراراً وتكراراً - أن فاران لدى علماء الكتاب المقدس تمثـّل لغزاً، وأنه من الصعب تحديد موقعها بدقة!!
أقصى مايستطيعون عمله هو الأخذ برواية سفر العدد على أنها حقائق تاريخية غير قابلة للنقاش،بينما الواقع يشهد بتعارض وتضارب هذه الرواية حتى مع رواية سفر التثنية نفسه!
والإضافة التفسيرية اليونانية في عد 33: 36 ليست تفسيراً في واقع الأمر، بل هي تحريف صريح! لأن النص العبري يقول بوضوح: "برية صين وهي قادش"، وقد سبق ورأينا أن صين غير فاران، فكيف يأتي مترجم ويُحرّف في بعض النسخ السبعينية ويضيف من عنده كلمة فاران، ثم تصبح هذه الزيادة المحرفة حقيقة طبوغرافية؟؟ أعطوني عقولكم أكرمكم الله!
النتيجة: موسى لم يرسل الجواسيس من فاران، بل أرسلهم من قادش في برية صين كما ورد ذلك صريحاً في سفر العدد 32: 8وفي سفر التثنية 1: 19. بل إنه فوق كل هذا، لم تـُذكَر فاران لا من قريب ولا من بعيد في الروايةالتفصيلية لرحلات الخروج المذكورة في آخر سفر العدد! واتضح لنا أن الخرائط كلها تـُبنى على نظرية "ضرب العصافير".