أباح الإسلام تعدّد الزوجات ولكنّه لم يفرضه -تماماً كما أباح الطلاق ولم يفرضه- ولم يحضّ عليه ولم يزيّنه في عيون الناس، بل على العكس نجد أنّه صعّبه (فإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدة)، وحين علم النبيّ عليه الصلاة والسلام أنّ علياً يخطب على ابنته فاطمة غضب وقام خطيباً في المسجد فقال: (إنّما فاطمة بضعةٌ منّي يريبني ما يريبها ويؤذيني ما يؤذيها)، وجعل الله الأصل أن يكون للرّجل زوجةً واحدة، فقد جعل لآدم زوجةً واحدة رغم أنّ البشريّة كانت في بدايتها والحاجة للتكاثر ملحّة.

وما فعله الإسلام في شأن تعدّد الزوجات -الذي كان موجوداً قبله في الشرائع السابقة وفي الجاهليّة- أنّه أبقى عليه بعد أن نظّمه وحدّده وتركه لظروف الحياة.

هذا هو شأن تعدّد الزوجات في الإسلام ببساطة إباحة التعدّد مع تفضيل إفراديّة الزوجة، وهو لا يستحقّ كلّ هذا الطعن والتعييب والذمّ من قبل المتحاملين على الإسلام الذين يصوّرون الإسلام كأنّه يفرض التعدّد ويشجّع عليه ثمّ يطعنون في ذلك، وهذا أسلوبهم دائماً؛ تحويل مزايا الإسلام إلى مساوئ وحلوله إلى مشاكل وبساطته إلى عقد مع المبالغة والكذب والدموع التمساحيّة.

فلماذا كلّ هذه الاستماتة والمبالغة في الطّعن بتعدّد الزوجات حتّى لا يكاد يخلو مسلسلٌ مصريٌّ من ذلك؟ هل هذه أكبر مصائب العرب والمسلمين؟ وهل هي ظاهرةٌ متفشّية؟ وهل معارضو التعدّد يهتمّون حقّاً لحقوق المرأة المسلمة ويقلقون لمشاعرها؟ ويحرصون على كرامتها؟

بالطّبع لا، ولكنّ لهم ثلاثة أهدافٍ خبيثة يجب التنبّه لها:
1- أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
2- إحدى وسائل التقليل من نسل المسلمين.
3- الطعن في الإسلام وتأليب المرأة المسلمة على ربّها ونبيّها وكتابها.

فأمّا الدليل على هدفهم الأوّل وهو إشاعة الفاحشة أنّ الذين يحاربون تعدّد الزوجات لا يحاربون تعدّد الخليلات والعشيقات والصديقات وما هو أخطر من ذلك مثل الزواج المدني والعرفي وزواج المتعة، بل على العكس تماماً يدعون إلى إباحتهم، وأيّهما أخطر على المجتمعات؟ تعدّد الزوجات أم ما يدعون إليه؟ وفي فرنسا طاردت الشرطة مسلماً بتهمة أنّه متزوّج من أربعة نساء، فاحتال عليهم بأنّ الأولى فقط زوجته والثلاث الباقيات عشيقاته، فتركوه!

وفي الوقت الذي يدعون فيه إلى محاربة تعدّد الزوجات لا نجدهم يحاربون ما يدعو إلى نظر الزوج لغير زوجته مثل تبرّج النساء في الشوارع و تعرّيهنّ على الفضائيّات والاختلاط المحرّم، وفي الوقت الذي يدافعون فيه عن كرامة المرأة لا نسمعهم يستنكرون استغلال جسدها في الدعاية والإعلان، فأيّ امتهانٍ لكرامة المرأة أكبر من ذلك؟

وأمّا الدليل على هدفهم الثاني وهو وضع حد لنسل المسلمين المتزايد، فمن المعلوم أنّ تعدّد الزوجات يتيح فرصة أكبر لزيادة نسل المسلمين المبارك فيه أصلاً، ممّا يقضّ مضجع البعض ممّن يهمّهم التقليل من عدد المسلمين فيسعون لذلك تارةً بالحروب والمجازر والمذابح، وتارةً بالخداع والبرامج المضلّلة وتارةً أخرى بمحاربة تعدّد الزوجات، لعلّ المسلمين ينحسرون.

وأمّا هدفهم الثالث وهو الطعن في الإسلام دخولاً من هذا الباب، فهم يصوّرون ذلك اضطهاداً للمرأة وإهانةً لمشاعرها، فترى الرجل في المسلسل المصري يتلو قوله تعالى (مثنى وثُلاث ورُباع) بتبجّحٍ وفوقيّة أمام زوجته التي تقف أمامه منكسرةً ذليلة مطأطئة الرأس لا تملك من أمرها شيئاً.

ولو أرادوا الإنصاف والعدل والحقيقة وبحثوا بعلمٍ وموضوعيّة لوجدوا أنّ الآية نزلت حمايةً للإناث وإضافةً لحقوق جديدة من حقوقهنّ في الإسلام، ذلك أنّها أوصت بالبنات اليتيمات والمحافظة على ميراثهنّ ونهت الرجل الوصيّ عليهنّ من الزواج منهنّ طمعاً في أموالهنّ وله أن يتزوّج من غيرهنّ مثنى وثلاث ورباع، كما أنّ تعدّد الزوجات هو مصلحةٌ للمرأة أكثر منه مصلحةً للرّجل، فهو سيضاعف من أعبائه ومسؤوليّاته وهمومه وأنكاده، لكنّ المرأة ستجد من ينفق عليها ويؤويها، وفي معظم الإحصائيّات نسب الإناث أعلى من نسب الذكور، فماذا نفعل بالفائض من النساء عن عدد الذكور؟ أنجهضهنّ وهنّ في بطون أمّهاتهنّ كما يفعلون في الصين والهند؟ أم نحرمهنّ من الزواج؟ وماذا عن الدول التي يقتل كثيرٌ من رجالها في الحروب؟ ألم تخرج النساء الألمانيّات بعد الحرب العالميّة الثانية في مظاهراتٍ ضخمة للمطالبة بالأخذ بنظام تعدّد الزوجات؟

كما أنّ تعدّد الزوجات أمرٌ بيد المرأة، فهي صاحبة القرار في قبول أو رفض أخذ دور الزوجة الثانية، ولا أحد يجبرها على ذلك.

وأكبر المتضرّرين من تعدّد الزوجات هم المرأة الأولى وأبناؤها والحقيقة أنّهم قد يكونون أكبر المنتفعين! فكلّ شيء بأمر الله وهو قادرٌ على كلّ شيء قدير، وكم من أمرٍ في ظاهره العذاب لكنّ باطنه الرّحمة، فقد يكون الزواج الثاني سبباً في شعور الزوج بقيمة زوجته الأولى ومضاعفة حرصه على حقوقها وبذل مشاعره وماله للتعويض عمّا فعل.
ربّ أمرٍ قد تضايقت به ثمّ يأتِ الله منه بالفرج

وكم من أخت انتفعت بإخوتها من أبيها أكثر ممّا انتفعت بإخوتها الأشقّاء، ويكفي أن تنال أجر الصّابرين، والزواج عليها لا يقلّل من قيمتها فزواج إبراهيم عليه السلام من أمّ إسماعيل لم يقلّل من قدر أمّ إسحق.

واشترط الإسلام على الرّجل أن يعدل بينهنّ في النفقة والسكن والأوقات وأن يعفّهن وأن يعامل أبناءه معاملةً لا تمييز فيها، فمن أخلّ بذلك فإنّ الله كان عليّاً كبيراً.

والمرأة المسلمة بحمد الله تعلم أنّ هؤلاء ليسوا أرحم بها من ربّها الذي كرّمها تكريماً وأعطاها حقوقاً لم تصل إليها عقولهم بعد، وهي تصدّق ربّها ولا تصدّق تباكي هؤلاء عليها، خصوصاً بعد أن رأينا كراماتنا وأعراضنا تنتهك بتلك الحيوانيّة الوحشيّة في العراق وأفغانستان وغيرهما.

وتعدّد الزوجات وقاية من كثيرٍ من المشاكل الاجتماعيّة وعلاجٌ لأخرى وصيانةٌ للرجال والنساء، وقايةٌ من الأمراض الجنسيّة، فكم من رجلٍ عاد من السفر حاملاً لزوجته هديّةً ثمينةً ومرضاً جنسيّاً، وكم عدد اللقطاء في الغرب الذي لا يتقبّل فكرة التعدد، وهو علاجٌ للعنوسة المتزايدة حيث لا تضطرّ المرأة أن تشيخ وحيدةً لا تتبادل المودّة إلّا مع قططها وجرائها كما يحدث لـ 85% من العجائز الأمريكيات اللواتي يعشن بلا معيل أو مساعدٍ أو ابنٍ كما في بعض الإحصائيات. وهو حمايةٌ للرّجل أن يقع في الزنا وللزوجة من أن يخونها زوجها، ويهملها هي وأبناءها، وحمايةٌ للزوجة الثانية من أن تكون مجرّد صديقة يستغلّها ثمّ يطردها متى يشاء، وحمايةٌ للأبناء من أن تحمل بهم الأمّ سرّاً ثمّ تضعهم لقطاء ليكون مصيرهم في أحسن الأحوال أبناء (أم عزباء) أو أيتاماً في مأوى للتنصير يرعاهم رجال دين مشهورون بالفضائح الجنسيّة، أليس هذا تماماً ما يحدث في الغرب؟!

وأعجب العجب أن يكون الطاعن بتعدّد الزوجات من أهل الكتاب اليهود والنصارى، الذين تسألهم: ما اعتراضك على الإسلام فيقول أحدهم: تعدّد الزوجات!

مع أنّ التعدّد في اليهوديّة مباحٌ بلا حدود ولا قيود، وفي النصرانيّة ظلّ نظام التعدّد معمولاً به حتّى القرن 17م معترفاً به من قبل الكنيسة، وقد أباح مارتن لوثر زعيم البروتستانت التعدّد وحجّته أنّه لم يرد في المسيحيّة نصٌّ واحدٌ يحرّمه.

وأمّا قول بولس في رسالته الأولى إلى تيماثاوس 3/ 2(فعلى الأسقف أن يكون منزّهاً عن اللوم زوج امراة واحدة) وكذلك في نفس الرسالة 3/ 12 (وعلى الشمامسة أن يكون كلّ واحدٍ منهم زوج امرأة واحدة) يفهم منه أنّ غير الأساقفة والشمامسة يمكن أن يتزوّج بأكثر من واحدة، ولم يحرّم التعدّد في المسيحيّة واليهوديّة إلّا من خلال المجامع البشريّة وإلّا فهو ثابتٌ في كتابهم المقدّس كما يروى من قصص أنبيائهم.
يقول عبّاس محمود العقّاد في كتابه حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: (وظلّ آباء الكنيسة في الغرب يبيحون تعدّد الزوجات ويعترفون بأبناء الملوك الشرعيّين من أزواج متعدّدات فلمّا منعته بعد القرن 17 على إثر خلافٍ بينها وبين الملوك الخارجين عليها كانت حجّة منعه أنّ الاكتفاء بالواحدة أخفّ الشرور لمن لا يقدر على الرهبانية، ولم يكن منعه إكباراً لشأن المرأة يوم كان الخلاف بينهم على أنّها ذات روحٍ أو أنها جسدٌ بغير روح، ولم يكن بينهم خلافٌ يومئذٍ على أنّها حبالة الشيطان، أبعد ما يكون الإنسان عنها أسلم ما يكون.
عبّاس محمود العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص 188

والغرب اليوم آخر من يحقّ لهم الحديث عن حقوق المرأة وكرامتها فما يتحفوننا به من إحصائيّاتٍ كلّ فترةٍ حول أوضاع المرأة عندهم حيث يزداد الزنا وتزداد تجارة الرقيق الأبيض ونسب الإجهاض وعدد اللقطاء وجرائم الاغتصاب وحيث تضحي الخيانات الزوجيّة أمراً عاديّاً وتمنح جائزة أوسكار (لأفضل دور في الخيانة الزوجيّة) كل هذا يجعل طعنهم في مسألة تعدّد الزوجات أمراً مضحكاً لا يشدّ الاستماع، وهم يذكّرونني بقوله تعالى (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا 27 يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا 28) النساء، وقوله (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) 89 النساء.

وهل يشجّع الغرب الزواج من واحدة حتى؟ كم نسبة أن يكون البطل والبطلة أزواجاً في أفلامهم؟!

في النهاية الوحيد والحقيقي الذي يضمن ألّا ينظر الزوج لغير زوجته هو تعاليم الإسلام الحنيف، وذلك من خلال الحضّ على التقوى، والأمر بغضّ البصر وحفظ الفرج وشرع الحجاب والنهي عن التبرّج والاختلاط غير المبرّر والخلوة، ومن خلال الدعوة إلى الانشغال بالعمل الجادّ والإنتاجيّة، فمتى تمسّك المجتمع بكلّ ذلك عاشت الأسرة في حياةٍ سعيدة.

أقول مرّةً أخرى الإسلام لم يفرض تعدد الزوجات، ولم يجمّله في العيون ولم يحثّ عليه، هو فقط أباحه لظروف الحياة، فإن كان لدى ألمانيا وفرنسا والليبراليّين والعلمانيّين والنصارى واليهود حلولٌ أفضل من ذلك فليقدّموها لنا (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ 50) المائدة.