أحكام فقهية تحدد حقوق الحيوان فى الاسلام:
كتُب الفقه الإسلامي طافحة بالأحكام المتعلقة بالحفاظ على حقوق الحيوان وهي كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة الموجزة، ومن ذلك ما قرره الفقهاء من وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، وإذا قصر مالك الحيوان في ذلك أجبره القضاء عليه، فإن لم يقم للدابة بما يجب عليه من حسن تغذيتها وسقيها، باعها القاضي ولم يتركها تحت يد صاحبها تقاسي.
ويقول القاضي أبو يعلى في كتابه (الأحكام السلطانية ص 305) : "وإذا كان في أربا المواشي من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه أنكره المحتسب عليه، ومنعه منه وإن لم يكن فيه مستعد _ أي مخاصم _ إليه، فإن ادعى المالك احتمال الدابة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن يفكر فيه، لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد فهو عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم وليس باجتهاد شرعي".
وفي الفتاوى البزازية (6/370) ما نصه: "المختار أن النملة إذا ابتدأت بالأذى لا بأس بقتلها وإلا يكره، وإلقاؤها في الماء يكره مطلقًا"، لأنه تعذيب لا مبرر له، "وقتل القملة لا يكره، وإحراقها وإحراق العقرب بالنار يكره" والهرة إذا كانت مؤذية لا تضرب ولا تعرك أذنها بل تذبح بسكين حاد.
ويقول النويري في نهاية الأرب (9/258): "وسمعوا بعض المفسرين يقول في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أن المحروم هو الكلب".
وقال الصنعاني في سبل السلام: (1/232) بعد حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها: "والحديث دليل على تحريم قتل الهرة لأنه لا عذاب إلا على فعل محرّم"
ومثل هذه الأحكام في كتب الفقه الإسلامي لا حصر لها.
هذا وقد بلغ المسلمون في الرفق بالحيوان حدًا يكاد يكون متطرفاً، حتى أن عدي بن حاتم كان يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات ولهن حق، كما رواه النووي في تهذيب الأسماء.
وكان الإمام أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب فزجره رفيق الإمام أبي إسحاق فنهاه الإمام وقال: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك.
روى الإمام ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (ص136) عنه أنه كتب إلى حيان بمصر فقال له :" إنه بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل.
فإذا بلغك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل. وروى عنه أيضا أنه كتب إلى صاحب السكك :" أن لا يحملوا أحدا بلجام ثقيل من هذه الرستنية ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة".
فانظر إلى هذا الجمال الرائع الذي ينطبع في مخيلتك عن الإسلام وأنت تقرأ مثل هذا التصرف الراقي من أحد روائع الدهر خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز حفيد عظيم من عظماء الأمة أمير المومنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وقد روى ابن سعد في الطبقات {7/127}عن أبي داود الطيالسي عن أبي خلدة خالد بن دينار عن المسيب بن دارم قال : رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال:" لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق". وروى ابن أبي شيبة في المصنف {7/99/34487} عن حميد بن عبد الرحمن قال : قال عمر: لو هلك حمل من ولد الضأن بشاطئ الفرات خشيت أن يسألني الله عنه.
ورواها أبو نعيم في الحلية (1/53)قال :حدثنا محمد بن معمر ثنا عبدالله بن الحسن الحراني ثنا يحيى بن عبدالله البابلتي ثنا الأوزاعي حدثني داود بن علي قال: قال عمر بن الخطاب لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة وفي صفوة الصفوة لابن الجوزي {1/285}
عن ابن عمر قال : كان عمر بن الخطاب يقول : لو مات جدي بطف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر.
وهذا شيء مهيب وموقف لا يملك الإنسان أمامه إلا الإكبار والتعظيم لهذا الدين الذي ربى في أتباعه مثل هذا الخلق السامي النبيل.كيف لا والله تعالى يقول {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون }
بل إنهم يسبحون الله تعالى كما نسبح لقوله تعالى {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}، فلله در العمرين رضي الله عنهما.
والألطف من هذا أن فقهاءنا تكلموا في ما هو أدق من ذلك، وجعلوه من مباحث الفقه المشهورة.
فقد سئل إمامنا مالك عن النمل يؤذي السقف ، فقال :" إن قدرتم أن تمسكوا عنها فافعلوا، فإن أضرت بكم ولم تقدروا على تركها فأرجوا أن يكون من قتلها في سعة" الجامع لابن أبي زيد {ص24}.
فواعجبا من هذا الشعور النبيل والإحساس الراقي الرقيق. وما هذا إلا التزام منهم بخطاب القرآن الكريم الذي علمهم أن الحيوانات أمم مثلنا لها علينا حق الإحسان إليها ومراعاة مصالحها
.بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية جعل الإحسان إلى البهائم من أنواع العبادة كما في رسالته الموسومة بـ(العبودية ) ص4 ، وهو أمر واضح لمن عرف حقيقتها، ثم إنني وقفت على كلام يحسن إيراده ، وهو جزء من مبحث طريف للشيخ الكتاني في التراتيب الإدارية {2/152} فقد قال بعد أن نقل من كلام الشيخ أبي علي ابن رحال المالكي رحمه الله نقولات طيبة : "فإن أبا علي جلب وحطب من الأنقال في المسألة ما يسوغ لنا أن نجعله في طليعة جمعيات الرفق بالحيوان العجم يتخذونه قدوة ونعم الأسوة وإنما أطلت القول هنا لتعلم أن أهل الإسلام قبلُ بقرون تفطنوا لما تظاهرت به الآن جمعيات الرفق بالحيوان في أروبا فخذه شاكرا ".
قلت : ظهرت أول حركة تدعو إلى الرفق بالحيوان سنة 1845 ميلادي في باريس في شكل جمعية تسمى : الجمعية المدافعة عن الحيوانات (SPA) Société protectrice des animaux.
ثم أصدرت مجموعة من الدول الإعلان العالمي لحقوق الحيوان بدار اليونسكو بباريس أيضا وفيه مجموعات من التوصيات لم ترق إلى مستوى القوانين.
وقد سبق الإسلام هذا الإعلان وما يحوم حوله إلى الأمر بالرفق بالحيوان والنهي عن تعذيبه والإساءة إليه بزمن طويل جدا، فسبق إلى الأمر بالإحسان إلى الذبيحة كي لا تحس بالألم، وبعد أربعة عشر قرنا ، أوصى بذلك الإعلان العالمي لحقوق الحيوان في الفصل الثالث. فتأمل وكن منصفا.
وقد لخص الإمام ابن عبد البر المالكي رحمه الله في الكافي مذهب الإمام مالك في الرفق بالحيوان فقال :" والرفق بالدواب في ركوبها والحمل عليها واجب سنة فإنها عجم لا تشكو وهي من ملك اليمين وفي كل كبد رطبة أجر هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان في الإحسان إليها أجر فكذلك في الإساءة إليها وزر وقد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل أن صاحبه يجيعه فأمره بالإحسان إليه أو يبيعه ولا يحمل على الدواب أكثر من طاقتها ولا يضرب وجوهها ولا تتخذ ظهورها كراسي .
وقال : ولا يحل حبس بهيمة مربوطة عن السرح والتحريش بين البهائم مكروه ".وهذا من الأمور التي سبق فيها الإسلام الجمعيات الحديثة ، ففي فرنسا مثلا يمنع قتل الثيران في حلبات اللعب على الطريقة الإسبانية، واستثنوا المناطق التي جعلت من ذلك تقاليد لا يفرط فيها.!
وقال الإمام القرطبي المالكي في الجامع {10/73}عند تفسير قوله تعالى {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون,ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون, وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم}:"في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها ولكن على قدر ما تحمله إسراف في الحمل مع الرفق في السير وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعة التفقد لعلفها وسقيها, فالدواب عجم لا تقدر أن تحتال لنفسها ما تحتاج إليه ولاتقدر أن تفصح بحوائجها فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيعها من حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة بين يدي الله تعالى".
ومثله ما سطره الشيخ خليل في الجامع المنسوب إليه فقال : "ويكره تعليق الأجراس والأوتار في أعناق الدواب كمنعها حقها من كلأ وخصب والحرق بها والحمل عليها ما لا
تطيق".
وأمثال ذلك في تراثنا كثير، وكان الدافع إلى كل ذلك هو الرغبة الشديدة في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً.
والآن ، قارئي الكريم .. ما أكبر الفارق بين النظرتين !!!
فانظر واقرأ وقارن واحكم ...
المفضلات