بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

دخل الأصمعي ذات يوم على أمير المؤمنين الرشيد وكان لا يحجب عنه وكان في فرد رجليه خفّ وفي الأخرى جورب لعلة كان يجدها، فسامره ساعة ثم نهض ليخرج فقال له الرشيد: يا أصمعي ماذا تشتهي أن يتخذ لك ليتقدم فيه وتتغدى معنا؟ فقال: أشتهي رقاقاً وجوزلاً شخصاً. فلم يعرف الرشيد ما قاله الأصمعي وكره أن يسأله عنه فتقدم إلى الطباخ أن يتبعه ويسأله من تلقاء نفسه ويوهمه أنه تقدم إليه فيه فلم يعرفه، فقال له: الرقاق معروف والجوزل الفرخ السمين. فمضى الطباخ وعرف الرشيد ذلك وأصلح للأصمعي ما طلبه وعاد فتغدى مع الرشيد. فلما أكل أمر بأن يحمل معه عشرون ألف درهم.
وحدث الأصمعي قال: دخلت ذات يوم على الرشيد فقال لي: اكتب يا أصمعي ولو على تِكّتك أو طرف ثوبك:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك في نعمةٍ ... زاد الذي زادك في الغم
قال: فكتبت البيتين.
قال وقال الأصمعي: بينا أنا ذات يوم قد خرجت في الهاجرة والجو يلتهب ويتوقد حراً إذ أبصرت جارية سوادء قد خرجت من دار المأمون ومعها جرة فضة تستقي فيها ماء وهي تردد هذا البيت بحلاوة لفظ وذرابة لسان:
حرُّ وجدٍ وحرُّ هجرٍ وحرُّ ... أي عيشٍ يكون من ذا أمرُّ
قال فقلت لها: يا جارية ما شأنك؟ فقالت: إني من دار أمير المؤمنين المأمون وأنا أحب عبداً له أسود وإنه قد هجرني ولا أحسن أن أخرج سري إلى أحد.
قال: فمضيت واستأذنت على المأمون، وإذا هو نائم فأذن لي، وقد كان أمر أن لا أحجب عنه على أي حال كان. فدخلت عليه وهو في مرقده فقال: ما جاء بك يا أصمعي في هذا الوقت؟ قلت: يا أ مير المؤمنين تهب لي جاريتك السوداء وعبدك الأسود فلاناً؟ فقال: قد فعلت ذلك وهما لك افعل بهما ما شئت. فخرجت من عنده وأحضرتٌهما وجمعت من أهل الدار من حضر وأعتقتهما وزوجت الجارية من العبد ثم عدت إلى المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إني فعلت كيت وكيت وإني أريد الآن ما أجهزهما به. فأمر لكل واحد منهما بعشرة آلاف درهم وأمر لي بمثل ذلك وخرجت من عنده وعاد هو إلى نومه.
من كتاب المحاسن والمساوئ -