بقلم: د. صالح بن عبد الله بن حميدوداعاً مفتي الأمة ابن باز
الاهتمام بالأعلام دليل وعي في الأمة وعنوان وفاء في المجتمع وهو في ذات الوقت طريق صحيح لتعريف الجيل والأجيال بعده بالقدوة والأسوة والمثال الحي.
وأنّ العلم المتحدث عنه هو سماحة الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر البحر الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أمد الله في عمره على طاعته وحفظه في صحته ودينه وعلمه.
أن ابن باز هذا اسم عال في سماء العصر وعنوان بارز في رجال الجيل يسمو على التلقيب بالألقاب (ابن باز) يترفع عن التحلي بالنعوت والعرب بفطرتها الصاخبة تنكر حاجة الأعلام للألقاب حتى قالوا: (وهل يخفى القمر!!).
والنيران: الشمس والقمر يذكران من غير حلية أو لقب، وأنت خبير بأن من الأسماء نكرات موغلة في التنكير لا يزيدها التعظيم بالألقاب والتفخيم بالنعوت إلا نكرة وخفاء وضمور، يموت أصحابها وما عرفوا وما ذكروا.
والأصالة العربية تنزع إلى التجريد فتتعلق بالجواهر والمعاني فتنادي عظماءها بأسمائهم المجردة ثقة بنفسها وثقة بعظيمها.
وقد يموت أناس لا تحسهم
كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا
وأنه ليكفي علمنا وشيخنا أن يدعى (ابن باز) فله تكوينه السوي وفقهه الواثق وروحه المتوثبة في قيم خلقية صافية، ترفعت على الشهوات نفسه، وتحلت بالإيثار خليقته، يصرفه عقل دارك وقلب يقظ، مرفود بالركانة والزكانة والنظرة الشاملة والتصور الكلي غير المحبوس في أفق خاص أو دائرة ضيقة إنه للأمة كلها وللدين كله.
يجمع بين الهمة العالية والخشوع والخضوع، سر الإعجاب أنه متواضع في بساطة مع كم من القيم والمثل العليا. رجل فذ يحمل المسؤولية بقوة ويرسم المنهج بكفاءة.
معهد علم ينهل منه الوارد فقهاً في الدين وفضلاً في المعضلات بضاعته في ذلك الآية والحديث والسند والرواية والفقه والدراية، فهو صاحب حجة وقائم بدليل ومستمسك بالوحيين.
عمله إدارة وجهاد يبذل الشفاعة ويقضي الحاجة ويعين على ثوابت الحق.
في منزله بيت كرم رفيع العماد تسطر أفعاله في الجود مع حاتم
طيء وهرم بن سنان.
هو في هذا أو ذاك يحمل هموم الأمة على كاهله ويتزاحم الناس على بابه ويسير الناس في ركابه المطالب تحيط به من كل جانب.
تمر به العواصف العاتية وهو ثابت كالطود الأشم وتنزل النوازل فإذا الشيخ يتلقفها باليمين.
لشدة الحق في سماحة سماحته معلم وللدعاة في وسطية مسلطه منهج.
وبعد فهذه إلماحات وإشارات ومقتطفات من شذرات مما ظهر من حال الشيخ والله ربنا وربه هو حسبنا وحسبه وما شهدنا إلا بما علمنا وعلم البواطن موكول إلى من يعلم السر وأخفى، فهو سبحانه أعلم بمن اتقى وأعلم بمن هو أهدى سبيلاً، فعلى من يحب الخير لنفسه أخذ بجامع المحاسن والاقتداء بما سلك الأماثل، إن أطاق وإن عجز فليترسم الخطى وليتتبع الأثر مأخذ القليل خير من ترك الجميع، ولله الحجة على خلقه ورحم الله شيخنا رحمة واسعة.
```
* العالم الإسلامي: الأربعاء 4-8 صفر 1420هـ، 19-23 مايو 1999م.
صالح بن يحيى الدوسي الزهرانيثلمة في الإسلام
المحاضر بقسم التربية - كلية المعلمين بجده.
خراب الأرض ونقص أطرافها يكون بموت علمائها وفقهائها، قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهم عند تفسير قول الله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا( الآية، وفي الأثر عن الحسن -رحمه الله- أنه كان يقول: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار) وأي ثلمة اليوم أصابت الإسلام والمسلمين كثلمته بموت إمام من أئمة السنة سماحة مفتي الديار العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز غفر الله له ورفع درجته.
عاش قرابة تسعين عاماً علم وأفتى وربى فيها المسلمين أكثر من نصف قرن على مذهب سلفهم الصالح، خصوصاً في مجمل مسائل الاعتقاد ومفصلها، وذلك من خلال كتبه وفتاواه وطلبته، وقد أولى رحمه الله قضية الألوهية والعبودية والأسماء والصفات جل اهتمامه في دعوته، إيماناً منه بأنه أول وأعظم حق لله على العبيد، ولا أظن عالماً على وجه الأرض اليوم ركز على هذا الحق في دعوته مثل سماحته غفر الله له، فما تكاد تجد له مؤلفات أو تسمع له محاضرة إلا ويبدأ
بالدعوة إلى توحيد الله الذي لا إله غيره وبيان أنه الغاية التي خلق الله من أجلها الثقلين، بعد ذلك ينثر الدر حول الموضوع المحدد الذي يخص محاضرته على منهج سلفه الصالح قال الله وقال رسوله e مع نقل كلام أئمة الإسلام كالإمام أحمد وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم مع التركيز على أقوال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله على الجميع.
كان -رحمه الله- إذا تكلم يتكلم بوضوح وتبسيط للمسائل على سجيته بعيداً عن التكلف والتعقيد، يربي بصغار العلم قبل كباره، وبأصوله قبل فروعه، وبهذا المنهج فتح الله له قلوب الناس، وكتب لأقواله وفتاواه القبول في مشارق الأرض ومغاربها، في كل المراكز الإسلامية والمساجد والأكاديميات المنتشرة في أرجاء المعمورة، قد تتوقف المؤتمرات العالمية عن إصدار حكم شرعي حول موضوع أو قضية ما لاختلاف أعضائها فإذا بلغهم رأي سماحته انفضَّ الخلاف بقبولهم وتصويتهم معه.
فإذا تأملت أخلاقه -رفع الله درجته- وجدته هيناً ليناً، ذا سماحة وصبر وحلم وأناة، يوقفه طالب العلم في حر الشمس، وقد وضع قدمه الأولى في سيارته فما يرفع الأخرى حتى ينصرف السائل وقد أجابه وقضى حاجته، كما يظهر حلمه في حلقات العلم ومجالسه التي تسمع فيها الأسئلة تنهال على الشيخ من كل جهة، وهو يجيب
دون ملل أو ضجر، تتكرر الأسئلة فلا يتجاهل أحداً، بل يزيد ويجيب ويكرر الإجابة بحسب حاجة السائل حتى أنه قد تضيق صدور بعض الحاضرين بالإثقال على سماحته وهو في صبر وحلم عجيب استولى على قلبه فلم يجعل للغضب والانفعال فيه مكاناً، إلا أن يكون لله فلا تأخذه في الله لومة لائم، فكم أنكر على أذناب العلمنه والحداثة وأمثالهم من أهل المناهج الفاسدة، وكم أنكر على بعض الزعماء في بعض دول العالم الإسلامي عدم تحكيمهم لشرع الله، فكلمة الحق عنده تخرج بقوة وشجاعة، ومن تأمل كتبه وفتاواه وإنكاراته ورسائله تجلى له ذلك.
أما وقته فكان وقفاً لله، ومن تتلمذ على يديه يوماً واحداً تربى تربية علمية على استغلال الوقت واستثماره في طاعة الله، إذ يبدأ رحمه الله الفتوى والدرس من بعد صلاة الفجر مباشرة ويظل كذلك يعمل ويفتي ويدرس دون توقف حتى ساعة متأخرة من الليل، بل إنك ترى كاتبه يقرأ عليه وهو في سيارته أثناء انتقاله لعمله أو عودته لمنزله، والشيخ يستمع ويجيب ويفتي حتى يصل مقره، ولسان حاله (إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وتعطل بصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح فلا أنهض إلا وخطر لي ما أكتبه) فاللهم أجرنا في مصابنا وأحسن عزاءنا.. )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(.
المفضلات