ابن باز رمز السلفية ورائد الإصلاح
الفقيد بين المحلية والعالمية "4 -- 4"
د. خليل بن عبد الله الخليل
احتل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مكانة مرموقة في نفوس المسلمين داخل المملكة وخارجها لما عرف عنه من صفاء ونقاء وعلم وعمل، فكان رحمه الله (جزيرة اللقاء) بين الناس. آثاره في كل مكان وتأثيره على كل إنسان عرفة.
لم يسافر -رحمه الله- خارج المملكة في حياته، بل أن أسفاره داخل المملكة محدودة ومع ذلك عرفه العالم الإسلامي أكثر من أي عالم آخر في القرن العشرين. بل حرص بعض المختصين في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية من غير المسلمين على الالتقاء به للتعرف على آرائه ووجهات نظره إزاء المشكلات الطارئة والدائمة، وكان محل إعجاب واحترام من يلتقون به. انطلق -رحمه الله- من الرسالة العالمية )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(ففتح قلبه للناس جميعاً، لذلك لا يمض له مجلس عام من مجالسه، إلا وقارات العالم -في الأغلب- ممثله فيه. إنه (رابطة العالم) وليس للعالم الإسلامي فحسب.
لم ينطلق منطلقاً (محلياً) ولا (إقليمياً) ولا (فئوياً) وإنما انطلق من
روح رسالة الإسلام العالمية الخالدة، فكان جهده منصباً على نشر العلم وتنقية العقيدة، وتربية الدعاة، وبناء المؤسسات أينما وجد لذلك سبيلاً.
على المستوى المحلي يعرف سماحته الناس وله أصدقاء وطلاب في كل منطقة من مناطق المملكة وهم يواصلونه ويكاتبونه وهو يبادلهم الاتصال ويجيب على مكاتباتهم. يعمل الساعات الطويلة في الاطلاع على المكتبات وإملاء الردود والاتصال والاجتماعات.
لم يكن (حزبياً) ولو كان كذلك لكان حزبه أكبر الأحزاب في العالم لأنه صاحب فكرة جذابة ولديه جميع المؤهلات التي تؤهله للقيادة والتأثير. استطاع أن يهزم بطلابه وعفويته الأحزاب (المنظمة) المعاصرة وبقي ما يدعو إليه من حق، واضمحل ما كان يدعون إليه من باطل.
استطاع أن يتعامل مع الناس في الداخل على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم ومناطقهم، واستطاع أن يملأ عيونهم وأن يقوم بواجب الدعوة بما هيأه الله له من إمكانات شخصية ورسمية.
أثر على حياة الناس بدون شك لذلك هرع الآلاف للسفر إلى مكة المكرمة للصلاة على الفقيد وتشييع جثمانه. وصلّت عليه المساجد صلاة الغائب في أنحاء المملكة وكانوا يحسون بفقدان (الأب الكبير) للعائلة العريضة الانتشار.
نعم العالم المجاهد الذي اجتمعت عليه القلوب في جميع (المنحنيات) التاريخية التي عاصرها. لم يكن -يرحمه الله- حريصاً على الدعاية ولا على تسجيل المواقف سواء لكسب عواطف العوام، أو لكسب رضا الحكام، وإنما كان حريصاً على الصدق والحق والإصلاح.
كان يعيش (عالماً آخر) لا يخضع للموازين المتعارف عليها مع واقعية ورضا وزهد. يحب الناس ويساعد المحتاجين منذ أن كان في منطقة الخرج عام 1357هـ كان ينفق على طلابه ويتعهدهم، ويسعى الناس للالتقاء به من أماكن بعيدة.
إنه صاحب رأي مستقل، ودائماً تجد عنده في المسألة المطروحة وجهة نظر سديدة، لم يكن عنيفاً مع المخالفين لآرائه، وكان يميل إلى التسامح والتيسير في التعامل والفتيا لفقهه -يرحمه الله- بالنصوص.
إن التشدد ليس من علامات الفقه في الدين مثلما أن الراديكالية السياسية ليست من سمات السياسة البارعة.
كان رحمه الله مناصراً للدولة في جميع الأزمات مرت بقناعة دينية، لذلك درأ الفتن عن الوطن. إنه العالم العلَم والطود الأشم عندما تدلهم الخطوب يقول رأيه بلا مجاملة، مما جعله أباً وسيداً. ثم إنَّ واجباته المحلية والوطنية لم تأخذه من القيام بالواجبات الملقاة على عاتقه تجاه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
كان ينفق -رحمه الله- على أكثر من (2000) إمام وداعية مما
يسمى (بدعاة البيت) أي من الميزانية غير الرسمية، أولئك الدعاة كانوا منتشرين في أنحاء العالم يتعهدهم -رحمه الله- ، ويعينهم على تحمل أعباء الدعوة، ثم إنَّ هنالك المئات من الفقراء الذين يقدم لهم مساعدات مالية في العالم.
يحيط سماحته علماً بأحوال العالم، وله أصدقاء وطلاب في أصقاع كثيرة، إنه كان سائراً على منهج السلف في التلقي والعمل وكان معنياً بالعقيدة أشد العناية ومتفاعلاً مع أحداث العالم الإسلامي، يؤلمه ما يؤلم المسلمين أينما كانوا ويسعده ما يسعدهم إنه "المرجع الديني" المعتبر لكثير من المسلمين في الخارج. لذلك فإن رحيله سوف يخلف فراغاً هائلاً مع الثقة في أن مسيرة الحق لن تتوقف، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعوض المسلمين في مصيبتهم خيراً.
كان رحمه الله إيجابياً مع الجمعيات والجماعات والأحزاب، وكانوا يثقون فيه، وكان يسهم في حل مشاكلهم وجمع كلمتهم، والغريب أنهم حساسون مع الذين ليسوا من داخل جماعتهم، لكن سماحة الفقيد مقبول من الجميع، محبوب من الجميع.
لم يكن يحمل على أحد وإن قال رأيه في مسألة من المسائل المثارة، فإنه يبين الحق دون التعرض للأشخاص والمؤسسات بالاسم، وإذا زاره من له رأي فيه قابله ببشاشة وتلطف ونصحه إن وجد لذلك
سبيلاً، رحل العالم الجليل تاركاً خلفه تركة ثمينة من العلم والذكر الحسن، والموت حق والسعيد من يشهد له الناس بالخير، والأمة تشهد للفقيد الراحل بالصدق والعلم والزهد والأمانة. رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته.
اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا
المفضلات