الإنصاف عند الإختلاف ( 3)

جاء فى الموسوعة الفقهية الكويتية بتصرف

أَسْبَابُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ :

الاِخْتِلاَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ هَوًى ، أَوْ عَنِ الاِجْتِهَادِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .

فَأَمَّا مَا كَانَ نَاشِئًا عَنْ هَوًى فَهُوَ مَوْضِعُ الذَّمِّ ، إِذْ أَنَّ الْفَقِيهَ تَابِعٌ لِمَا تَدُل عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنْ صَرَفَ الأَْدِلَّةَ إِلَى مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ فَقَدْ جَعَل الأَْدِلَّةَ تَابِعَةً لِهَوَاهُ .

وَذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ الْخِلاَفَ النَّاشِئَ عَنِ الْهَوَى هُوَ الْخِلاَفُ حَقِيقَةً [1] . وَإِذَا دَخَل الْهَوَى أَدَّى إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ حِرْصًا عَلَى الْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ بِإِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي الْخِلاَفِ ، وَأَدَّى إِلَى الْفُرْقَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، لاِخْتِلاَفِ الأَْهْوَاءِ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهَا . فَأَقْوَال أَهْل الأَْهْوَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي الْخِلاَفِ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيَرُدُّوا عَلَيْهَا وَيُبَيِّنُوا فَسَادَهَا ، كَمَا فَعَلُوا بِأَقْوَال الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُوَضِّحُوا مَا فِيهَا[2] .

أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الاِخْتِلاَفُ النَّاشِئُ عَنْ الاِجْتِهَادِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ ، يَتَعَرَّضُ لَهَا الأُْصُولِيُّونَ لِمَامًا . وَقَدْ أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ قَدِيمًا وَحَاوَل الْوُصُول إِلَى حَصْرٍ لَهَا ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الإِْنْصَافِ فِي أَسْبَابِ الْخِلاَفِ " وَابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَةِ " بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ " وَابْنُ حَزْمٍ فِي " الإِْحْكَامِ " وَالدَّهْلَوِيُّ فِي " الإِْنْصَافِ " وَغَيْرُهُمْ . وَيَرْجِعُ الاِخْتِلاَفُ إِمَّا إِلَى الدَّلِيل نَفْسِهِ ، وَإِمَّا إِلَى الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ .

أَسْبَابُ الْخِلاَفِ الرَّاجِعِ إِلَى الدَّلِيل :

مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ :

1 - الإِْجْمَال فِي الأَْلْفَاظِ وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلاَتِ .

2 - دَوَرَانُ الدَّلِيل بَيْنَ الاِسْتِقْلاَل بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ .

3 - دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، نَحْوُ { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } اخْتُلِفَ فِيهِ هَل هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِأَهْل الْكِتَابِ الَّذِينَ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ .

4 - اخْتِلاَفُ الْقِرَاءَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَاخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ .

5 - دَعْوَى النَّسْخِ وَعَدَمِهِ [3] .

6 - عَدَمُ اطِّلاَعِ الْفَقِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَوْ نِسْيَانِهِ لَهُ .

أَسْبَابُ الْخِلاَفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ :

مِنَ الْعُسْرِ بِمَكَانٍ حَصْرُ الأَْسْبَابِ الَّتِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، فَكُل قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا يَنْشَأُ عَنْهَا

اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا .

الإِْنْكَارُ وَالْمُرَاعَاةُ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :

أَوَّلاً : الإِْنْكَارُ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :

ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ قَاعِدَةَ : " لاَ يُنْكَرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَلَكِنْ يُنْكَرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ " . وَقَال إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا صُوَرٌ يُنْكَرُ فِيهَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ :

إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ بَعِيدَ الْمَأْخَذِ . وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِوَطْءِ الأَْمَةِ الْمَرْهُونَةِ وَلَمْ يُنْظَرْ لِلْخِلاَفِ الشَّاذِّ فِي ذَلِكَ .

الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَرَافَعَ فِيهِ لِحَاكِمٍ ، فَيَحْكُمَ بِعَقِيدَتِهِ . إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِهِ .

الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ لِلْمُنْكِرِ فِيهِ حَقٌّ ، كَالزَّوْجِ الْمُسْلِمِ يَمْنَعُ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ خِلاَفٍ فِي حَقِّهِ بِمَنْعِهَا وَعَدَمِهِ [4] .

وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الأُْمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْحِل وَالتَّحْرِيمِ أَنَّ مُخَالِفَهُ قَدِ ارْتَكَبَ ( الْحَرَامَ ) فِي نَحْوِ ( لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ) وَلَكِنْ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ وَاللَّعْنُ إِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ الاِجْتِهَادَ الْمَأْذُونَ فِيهِ . بَل هُوَ مَعْذُورٌ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ .

وَكَذَلِكَ مَنْ قَلَّدَهُ التَّقْلِيدَ السَّائِغَ . [5]

ثَانِيًا : مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ :

يُرَادُ بِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ يَتْرُكُ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا . كَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْوُجُوبِ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى إِبَاحَةَ الشَّيْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَْئِمَّةِ مَنْ يَرَى وُجُوبَهُ . كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْوِتْرِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَدَمِ تَرْكِهِ ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ . وَلاَ يَتَأَتَّى مِمَّنِ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ مُرَاعَاةُ قَوْل مَنْ يَرَى التَّحْرِيمَ ، وَلاَ مِمَّنِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ مُرَاعَاةُ قَوْل مَنْ يَرَى الْوُجُوبَ .

حُكْمُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ :

ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلاَفِ مُسْتَحَبٌّ .

شُرُوطُ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلاَفِ :

قَال السُّيُوطِيُّ : لِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ شُرُوطٌ :

أَحَدُهَا : أَنْ لاَ تُوقِعَ مُرَاعَاتُهُ فِي خِلاَفٍ آخَرَ .

الثَّانِي : أَنْ لاَ يُخَالِفَ سُنَّةً ثَابِتَةً وَمِنْ ثَمَّ سُنَّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ . وَلَمْ يُبَال بِقَوْل مَنْ قَال بِإِبْطَالِهِ الصَّلاَةَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لأَِنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا .

الثَّالِثُ : أَنْ يَقْوَى مُدْرَكُهُ - أَيْ دَلِيلُهُ - بِحَيْثُ لاَ يُعَدُّ هَفْوَةً . وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَل لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُبَال بِقَوْل دَاوُدَ : إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ . [6]

وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي هَذَا الشَّرْطِ الثَّالِثِ : أَنْ يَقْوَى مُدْرَكُهُ بِأَنْ يَقِفَ الذِّهْنُ عِنْدَهُ ، لاَ بِأَنْ تَنْهَضَ حُجَّتُهُ .

أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ :

جَمَعَ السُّيُوطِيُّ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مِنْ فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهَا :

1 - أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ يَقُول بِالْوُجُوبِ : اسْتِحْبَابُ الدَّلْكِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَاسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ ، وَالتَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ ، وَتَرْكُ الأَْدَاءِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْقَضَاءَ ، وَتَرْكُ الْقَصْرِ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِ مَرَاحِل ، وَتَرْكُ الْجَمْعِ ، وَقَطْعُ الْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةَ إِذَا رَأَى الْمَاءَ .

2 - أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ يَقُول بِالتَّحْرِيمِ : كَرَاهَةُ الْحِيَل فِي بَابِ الرِّبَا ، وَكَرَاهَةُ نِكَاحِ الْمُحَلِّل ، وَكَرَاهَةُ مُفَارَقَةِ الإِْمَامِ بِلاَ عُذْرٍ ، وَكَرَاهَةُ صَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ . [7]

وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً مِنْهَا : نَدْبُ الْوُضُوءِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ أَوِ الْمَرْأَةِ . [8]

وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ : اسْتِحْبَابَ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ .[9]

وَذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ الْبَسْمَلَةُ فِي الْفَرْضِ إِذَا قَصَدَ بِهَا الْخُرُوجَ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهَا .

[1] يعني أنه لا يرجع الوفاق كالخلاف الناشئ من نظر المجتهدين من أهل الحق في الأدلة ، إذ أنهم يلتزمون بمقتضى الدليل كما تقدم .

[2] الموافقات

[3] الموافقات

[4] الأشباه والنظائر ط التجارية

[5] رفع الملام، ومجموع الفتاوى .

[6] الأشباه والنظائر للسيوطي ط الحلبي

[7] حاشية ابن عابدين ، وتحفة المحتاج لابن حجر بحاشية الشرواني ، والأشباه والنظائر ط المكتبة التجارية .

[8] حاشية ابن عابدين

[9] المغني