بسم الله الرحمن الرحيم


يخرج علينا من حين لآخر من يتباكى لما يسميه بحرية المعتقدات ويتهمون الإسلام بأنه لا يحترم حرية الإعتقاد ويُفرض على الغير قسرا.....فإن كشفت لهم سماحة الإسلام مع خصومه عبر العصور واعتناق الناس لدين الله رغبة منهم وهربا من ظلم المخلوقات إلى عبادة رب المخلوقات العادل الرحيم, وفرارا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ....لجأوا بعد ذلك إلى حد الردة وقالوا: كيف يفرض على المرء ألا يترك الدين إن أراد وإلا قُتل؟ ألا ينافي ذلك حرية المعتقدات؟ فإن قيل لهم أنه على من يعتنق الإسلام أن يعلم أنه يسلم نفسه وينقاد لأوامر الله عز وجل إنقيادا تاما, فالدين أرقى من أن ألعوبة يتركه المرء متى يشاء ويدخله متى شاء.....فيقولون وما ذنب من ولد على الإسلام ولم يختر الدين بنفسه؟ ويقولون أيضا الذي يفتدي نفسه من حد الردة بإدعاء التوبة ألا يصبح منافقا؟ وأليس تركه أفضل من أن يكون منافقا وسط المسلمين؟ أليس في ذلك قمعا لحريته؟

وللرد على هذه الشبهة سنتكلم بشكل مجرد وسنفترض بأن هناك دين ما أو شرع ما ولنرمز إليه بالرمز (أ) وأن هذا الدين أو الشرع هي التعاليم والوصايا الحقيقية التي اختارها الإله لخلقه وأذن لهم بها وما عاداها فهو من صنع البشر..وليضع القارئ في النهاية ما يعتقده صحيحا مكان هذا الدين...فليفترض المسلم أنه الإسلام وليفترض المسيحي أنها المسيحية والبوذي أنها البوذية وهكذا....ولينظر كيف حل دينه مشكلة الإرتداد.

=========================================================


وعلينا أن نعرف الآن, ما هي خطورة أن يترك إنسان ما تعاليم الله وشرائعه وأن يتخلى عن الدين الحق وأن يجاهر بهذا أمام الناس؟

تمكن خطورة هذا الأمر في جانبين أساسيين:

1) الجانب الفردي: وهو أن هذا الشخص يبتعد عن ربه وإلهه وسيلحق بأصحاب الملل البشرية الأخرى الفاسدة التي ترك دين الله من أجلها وهو بذلك يقترب أكثر وأكثر نحو الهلاك....فهو يضر نفسه قبل الآخرين.
2) الجانب الإجتماعي: وهو أنه بذلك يُعرٍض غيره من ضعفاء الإيمان أو ممن لم يتوغل الإيمان في قلوبهم بشكل كامل لبعدهم عن الدين وممن لا يعرفون إلا قليلا عن الدين لأن يتأثروا به ويقودهم معه إلى الهلاك....فهو يضر المجتمع من حوله أيضا ويبعدهم عن ربهم. (والخوف هنا لن يكون على الدين لأن الدين الإلهي يظل أقوى من الشبهات البشرية, ولكن الخوف على ضعاف الإيمان وقليلي العلم الذين قد ينخدعون بهذه الشبهات ويميلون لها لقلة علمهم بالدين, وقد تكون سببا في تركهم أيضا للدين).

وعلينا إذن أن نجد حلا يجمع بين الرحمة بهذا الفرد والمجتمع المؤمن حوله والحد من خطورة الإرتداد.

وهنا سيكون أمامنا أمرين:

1) إما إرغام هذا الشخص بالعنف والقوة على الرجوع للحق وإن لم يفلح هذا قُتل...ولكن هذا سيمثل ظلم لهذا الشخص وقمع له وديكتاتورية في التعامل مع البشر.
2) إما أن نرفع أيدينا عنه تماما وبهذا نتركه يقود نفسه وغيره نحو الهلاك ونكون بهذا ظلمناه وظلمنا المجتمع من حوله.

وبما أن الأمرين السابقين سيؤديان إلى مشاكل أكبر فالبديهي إذن أن يكون أول تصرف تجاه هذا الشخص الرافض للخضوع لواصايا الله هو محاورته والنقاش معه لمعرفة سبب رفضه للدين....لعله يكون قد أخذ قرارا متسرعا لشبهة ما وقعت في قلبه وبنقاشه تزول هذه الشبهة عنه ويعود لربه ولدينه....فيتم مناقشته وحواره مدى وضح أنه من الباحثي عن الحق وليس معاندا أو مكابرا.

والسؤال الآن: ماذا لو طال النقاش واتضح بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الشخص معاند ومكابر وليس باحثا عن الحق....وتركه وشأنه سيؤدي لما هو معلوم من تضليله لنفسه ولحاقه بأصحاب الديانات البشرية ليزيدونه ضلالا....وأيضا من إضلاله للآخرين من أصحاب القلوب الضعيفة الإيمان......؟

رفض هذا الشخص لدين الله وتفضله للموت على إتباع الدين رغم أنه الدين الإلهي الحقيقي وبالرغم من حواره وتفنيد شبهاته وحتى لو عرف أنه سيُقتل مقابل هذا لا يعني إلا أحد الأمرين:

1) إما أنه قد تبين له الحق وعرف أن هذا دين الإله الحقيقي ولكنه جحد به وكابر وعاند وكأنه يقول: أفضل الموت على اتباع تعاليم ربي وسأظل أجاهر بذلك.
2) إما أنه قد بلغ من العند والمكابرة حد أن عمى قلبه عن الحق فأصبح لا يراه ولو كان واضحا وظاهرا ويبلغ بهذا حد تفضيل الموت عن الرجوع لربه ويكون هذا عقابا إلهيا على شدة تكبره على الحق.

وفي كلتا الحالتين فإن هذا الشخص قد اتضح جليا عدم الجدوى من علاج الجانب الفردي فيه لأنه ليس سوى معاند ومكابر وليس بباحث عن الحق وبالتالي تبقى خطورته من الجانب الإجتماعي بتضليله لغيره من قليلي العلم وضعاف الإيمان وزعزعة إيمانهم.....وبالتالي فالتصرف البديهي هو أن يقتل هذا المعاند المكابر الذي فضل الموت عن إتباع الحق وتخليص المجتمع من هذه الثمرة الفاسدة التي تؤدي لفساد غيرها من الثمار.

(يلاحظ أننا مازلنا نتحدث بصفة مجردة ونفترض أننا نتحدث من زاوية الدين الإلهي الحقيقي بصرف النظر عن اسمه)

وهنا قد يظهر إحتمال ثالث وهو الأقوى والأكثر بداهة من الإحتمالين السابقين وهو أن يفتدي هذا الإنسان نفسه بإدعائه الإيمان والرجوع (وبهذا فقد يكون أقل عندا وتكبرا من الحالتين السابقتين) ويبقى لنا:

1) إما قتله أيضا لأنه يكذب وينافق ليفتدي نفسه.
2) إما تركه من باب الرحمة....وهذا الأفضل بلا شك.

والرد الآن على من يقول أن إجبار هذا الشخص على إعتناق ما لا يريده حتى ولو كان باطلا هو قمع لحريته هو أن هذا من تمام الرحمة به وبالمجتمع من حوله....

فبالرغم من أن هذا الشخص مازال به شئ من العناد والكبر (لرفضه إتباع الدين بالرغم من كونه الدين الإلهي الحقيقي) إلا أن إبقاءه مع أصحاب الدين الحق سيكون من باب الرحمة به لإحتمال إهتداءه مستقبلا ورجوعه لربه وتوبته.

ومنعه من الجهر بما يعتقد من أباطيل سيكون بمثابة رحمة بالمجتمع من حوله من ضعفاء الإيمان وقليلي العلم من التأثر بهم....


وهو مع ذلك لا نقمع فكره بل يُترك لأصحاب العلم ليناقشوه متى شاء وبصدر منفتح حول ما لديه من شبهات وليفضي إليهم بما بداخله حتى يرجع لربه بإيمان حقيقي ليصبح أفضل مما سبق....المهم ألا يجاهر بهذه الشبهات ليحاول زعزعة إيمان الناس..فالحوار ليس عيبا ولكن الكذب وتضليل الناس هو أكبر جريمة.

ولمن يتحدث على المعاملة بالمثل بالنسبة للأديان الأخرى نذكره أننا نتحدث عن الدين (أ) الذي افترضنا أنه الدين الإلهي ارتضاه الله لخلقة والذي يحتوي على تعاليم الإله ووصاياه الحقيقية والديانات الأخرى (ج,د,هـ,...) التي ليست سوى ديانات وضعية نسبها البشر ظلما وزورا للإله.... فليضع كل قارئ مكان هذا الدين (أ) ما يؤمن به, ولينظر هل وضع ألهه هذه الحلول الرحيمة بالفرد والمجتمع لمشكلة خطورة الإرتداد عن الدين الحق, أم أن عقيدته قد وضعت حلولا أخرى تجمع بين الرحمة والحد من خطورة المرتد.....فإن لم يجد فعليه أن يلتزم بما يؤمن به في دينه(*) أو أن يبحث عن الدين الحقيقي الذي وضع الحل والمنهج المناسب لهذه المشكلة وجمع بين الرحمة والحد من خطورة المرتد...


خاتمة طيبة ذات صلة:

قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:
إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقحمون فيها
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - لصفحة أو الرقم: 6483
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

مثلي ومثل ما بعثني الله ، كمثل رجل أتى قوما فقال : رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا ، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم
الراوي: أبو موسى الأشعري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - لصفحة أو الرقم: 6482
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

موضوع مشابه:
https://www.ebnmaryam.com/vb/t80309.html


_____________________________________
(*) سؤال عابر: هل تعاليم المسيحية هي تعاليم المحبة وحرية العقيدة حتى مع من يتركها ويعتنق دينا آخر كما في المسيحية التي يروجها المسيحيون الآن أم الموت بلا رأفة كما في مسيحية العصور الوسطى أو كما في شريعة العهد القديم (المُلغاه) والخاصة فقط ببني إسرائيل؟