الوسيط لسيد طنطاوي - (1 / 3449)
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة ، بالاحتشام والتستر فى ملابسهن فقال - تعالى - { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } .
قال الآلوسى : روى عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة ، تخرجان ليلا لقضاء الحاجة فى الغيطان وبين النخيل ، من غير تمييز بين الحرائر والإِماء ، وكان فى المدينة فساق يتعرضون للإِماء ، وربما تعرضوا للحرائر ، فإذا قيل لهم قالوا : حسبناهن إماء ، فأمرت الحرائر أن يخالفن الإِماء فى الزى والتستر فلا يطمع فيهن . .
وقوله : { يُدْنِينَ } من الإِدناه بمعنى التقريب ، ولتضمنه معنى السدل والإِرخاء عُدِّىَ بعلى . وهو جواب الأمر ، كما فى قوله - تعالى - : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة . . . . } .
والجلابيب : جمع جلباب ، وهو ثوب يستر جميع البدن ، تلبسه المرأة ، فوق ثيابها .
والمعنى : يأيها النبى قل لأزواجك اللائى فى عصمتك ، وقل لبناتك اللائى هن من نسلك ، وقل لنساء المؤمنين كافة ، قل لهن : إذا ما خرجن لقضاء حاجتهن ، فعليهن أن يسدلن الجلابيب عليهن ، حتى يسترن أجسامهن سترا تاما ، من رءوسهن إلى أقدامهن ، زيادة فى التستر والاحتشام ، وبعدا عن مكان التهمة والريبة .
قالت أم سلمة - رضى الله عنها - : لما نزلت هذه الآية ، خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها .
وقوله : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } بيان للحكمة من الأمر بالتستر والاحتشام .
أى : لك التستر والاحتشام والإِدناء عليهن من جلابيبهن يجعلهن أدنى وأقرب إلى أن يعرفن ويميزن عن غيرهن من الإِماء ، فلا يؤذين من جهة من فى قلوبهم مرض .
قال بعض العلماء : وقد يقال إن تأويل الآية على هذا الوجه ، وصرها على ال حرائر ، قد يفهم منه أن الشارع قد أهمل أمر الإِماء ، ولم يبال بما ينالهن من الإِيذاء من ضعف إيمانهم ، مع أن فى ذلك من الفتنة ما فيه ، فهلا كان التصون والتستر عاما فى جميع النساء؟
والجواب ، أن الإِماء بطبيعة عملهن يكثر خروهجن وترددهن فى الأسواق ، فإذا كلفن أن يتقنعن ويلبسن الجلباب السابغ كلما خرجن ، كان فى ذلك حرج ومشقة عليهن ، وليس كذلك الحرائر فإنهن مأمورات بعدم الخروج من البيوت إلا لضرورة ومع ذلك فإن القرآن الكريم قد نهى عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات جميعا - سواء الحرائر والإِماء ، وتوعد المؤذين بالعذاب المهين .
. والشارع - أيضا - لم يخطر على الإِماء التستر والتقنع ، ولكنه لم يكلفهن بذلك منعا للحرج والعسر ، فللأمة أن تلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك . .
هذا ، ويرى الإِمام أبو حيان أن الأرجح أن المراد بنساء المؤمنين ، ما يشمل الحرائر والإِماء وأن الأمر بالتستر يشمل الجميع ، وأن الحكمة من وراء هذا الأمر باسدال الجلابيب عليهن ، درء التعرض لهن بسوء من ضعاف الايمان .
فقد قال - رحمه الله - : والظاهر أن قوله : { وَنِسَآءِ المؤمنين } يشمل الحرائر والإِماء ، والفتنة بالإِماء أكثر لكثرة تصرفهن ، بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح . . { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ } لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ، ولا يليقين بما يكرهن ، لأن المرأة إذا كانت فى غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الذى اتجه أبو حيان - رحمه الله - أولى بالقبول من غيره ، لتمشية مع شريعة الإِسلام التى تدعو جميع النساء إلى التستر والعفاف .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أى : وكان الله - تعالى - وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه توبة صادقة مما وقع فيه من أخطاء وسيئات .
تفسير الشعراوي - (1 / 6321)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

ذكر هنا المقابل ، فأمر النساء بما أمر به الرجال ، ثم زاد هنا مسألة الزينة . والزينة : هي الأمر الزائد عن الحد في الفطرية؛ لذلك يقولون للمرأة الجميلة بطبيعتها والتي لا تحتاج إلى أن تتزين : غانِية يعني : غنيت بجمالها عن التزيُّن فلا تحتاج إلى كحل في عينيها ، ولا أحمر في خدَّيْها ، لا تحتاج أن تستر قُلْبها بأسورة ، ولا صدرها بعقد . . إلخ .
فإنْ كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجتْ لشيء من الزينة ، لكن العجيب أنهن يُبالِغْنَ في هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبي مائل ، فترى مُسِنَّات يضعْنَ هذا الألوان وهذه المساحيق ، فيَظْهَرن في صورة لا تليق؛ لأنه جمال مُصْطنع وزينة متكلفة يسمونها تطرية ، وفيها قال المتنبي ، وهو يصف جمال المرأة البدوية وجمال الحضرية :
حُسْن الحِضارة مَجلْوبٌ بتطْرِيةٍ ... وفِي البَدَاوة حُسْنٌ غير مَجْلُوب
ومن رحمة الله بالنساء أن قال بعد { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ . . } [ النور : 31 ] قال : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا . . } [ النور : 31 ] يعني : الأشياء الضرورية ، فالمرأة تحتاج لأنْ تمشي في الشارع ، فتظهر عينيها وربما فيها كحل مثلاً ، وتظهر يدها وفيها خاتم أو حناء ، فلا مانع أن تُظهر مثل هذه الزينة الضرورية .
لكن لا يظهر منها القُرْط مثلاً؛ لأن الخمار يستره ولا ( الديكولتيه ) أو العقد أو الأسورة أو الدُّمْلُك ولا الخلخال ، فهذه زينة لا ينبغي أن تظهر . إذن : فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطةَ أن تكون في حدود ، وأن تقصر على مَنْ جُعِلَتْ من أجله .
ونلحظ في قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا . . } [ النور : 31 ] المراد تغطية الزينة ، فالجارحة التي تحتها من باب أوْلَى ، فالزينة تُغطِّي الجارحة ، وقد أمر الله بسَتْر الزينة ، فالجارحة من باب أَوْلَى .
وقوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] .
الخُمر : جمع خِمّار ، وهو غطاء الرأس الذي يُسْدل ليستر الرقبة والصدر . الجيوب : جميع جيب ، وهو الفتحة العليا للثوب ويسمونها ( القَبَّة ) والمراد أن يستر الخمارُ فتحةَ الثوب ومنطقة الصدر ، فلا يظهر منها شيء .
والعجيب أن النساء تركْنَ هذا الواجب ، بل ومن المفارقات أنهن يلبسْنَ القلادة ويُعلِّقن بها المصحف الشريف ، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعي وعدم الدراية بشرع الله مُنزِل هذا المصحف .
وتأمل دقة التعبير القرآني في قوله تعالى { وَلْيَضْرِبْنَ . . } [ النور : 31 ] والضرب هو : الوَقْع بشدة ، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها وتتركها هكذا للهواء ، إنما عليها أنْ تُحكِمها على رأسها وصدرها وتربطها بإحكام .
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة : رحم الله نساء المهاجرات ، لما نزلت الآية لم يكُنْ عندهم خُمر ، فعمدْن إلى المروط فشقوها وصنعوا منها الخُمُر .
إذن : راعَى الشارع الحكيم زِيَّ المرأة من أعلى ، فقال : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ . } [ النور : 31 ] ومن الأدنى فقال : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ . . } [ الأحزاب : 59 ] .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] أي : أزواجهن؛ لأن الزينة جُعِلَتْ من أجلهم { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] أبو الزوج ، إلا أنْ يخاف منه الفتنة ، فلا تبدي الزوجة زينتها أمامه .
تفسير الشعراوي - (1 / 6370)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
نعلم أن الشارع الحكيم وضع للمرأة المسلمة قواعد تسير عليها في زِيِّها وسلوكها ومِشْيتها ، حمايةً لها وصيانةً للمجتمع من الفتنة ، وحتى لا يطمع فيها أصحاب النفوس المريضة ، فجعل لها حجاباً يسترها يُخفي زينتها لا يكون شفافاً ولا واصفاً ، وقال : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] .
لكن القواعد من النساء والكبيرات منهن لَهُنَّ حكم آخر .
والقواعد : جمع قاعد لا قاعدة ، قاعدة تدل على الجلوس ، أمّا القاعد ذكراً أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة ، ولم يَعُدْ له مهمة الإنجاب ، ومثل هؤلاء لم يَعُدْ فيهنَّ إِرْبة ولا مطمع؛ لذلك لا مانعَ أن يتخفَّفْنَ بعض الشيء من اللباس الذي فُرِض عليهن حال وجود الفتنة ، ولها أن تضع ( طرحتها ) مثلاً .
لكن هذه مسألة مقولة بالتشكيك : نسبية يعني : فمِن النساء مَنْ ينقطع حَيْضها ويدركها الكِبَر ، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربنا تبارك وتعالى وضع لنا الحكم الاحتياطي { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ] ثم يدلُّهُن على ما هو خير من ذلك { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } [ النور : 60 ] .
والمقصود بوَضْع الثياب : التخفّف بعض الشيء من الثياب الخارجية شريطة { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ] فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أَخْذاً بهذه الرخصة ، ثم تضع الزينة وتتبرج . ونخشى أن نُعلِّم النساء هذا الحكم فلا يأخذْنَ به حتى لا نقول عنهن : إنهن قواعد!!
وتعجب حين ترى المرأة عندما تبلغ هذه السِّنَّ فتجدها وَرِعة في ملبسها ، وَرِعة في مظهرها ، وَرِعة في سلوكها ، فتزداد جمالاً وتزداد بهاءً وآسرية ، على خلاف التي لا تحترم سِنّها فتضع على وجهها المساحيق والألوان فتبدو مَسْخاً مُشوَّهاً .
ومعنى { يَسْتَعْفِفْنَ } [ النور : 60 ] أي : يحتفظْنَ بملابسهن لا يضعْنَ منها شيئاً ، فهذا أَدْعى للعفة . تفسير الشعراوي - (1 / 7473)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
وفي موضع آخر من هذه السورة سيأتي : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 59 ] ؛ لأن الرجل حين يجد المرأة محتشمة تستر مفاتن جسمها لا يتجرأ عليها ، ويعلم أنها ليستْ من هذا الصنف الرخيص ، فيقف عند حدوده .
وقد قال الحكماء : أما إذا رأيتَ امرأةً تُظهر محاسنها لغير محارمها وتُلِحُّ في عرض نفسها على الرجال ، فكأنها تقول للرجل ( فتح يا بجم ) تقول للغافل تنبه . فتستثير فيه شهوته ، فَيَتَجَرَأْ عليها .
فالحق سبحانه يريد لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أولاً أنْ يُكلِّمْنَ الناس من وراء حجاب ، وأنْ يُكلِّمْنَ الناس بالمعروف كلاماً لا لينَ فيه ، ولا ميوعة حتى لا يَتعرَّضْنَ لسوء ، ولا يتجزأ عليهن بذيء أو مستهتر .
أخوكم ومحبكم فى الله
طالب العفو الربانى
محمود بن محمدى العجوانى