ما ينطق عن الهوى

ما هو الهوى ؟ ...... هو من مادة (( الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء )) .

فالهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه . فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعاً وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع .

وهل كل الهوى كذلك ؟ ....... لا

لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) رواه البغوي في شرح السنة و التبريزي في مشكاة المصابيح والمتقي في كنز العمال .

إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير ، وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعاً للحق .

وهناك هوى النفس المجردة من المنهج مثل (( كلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم فريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون ))

وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله .

وهل ترك الله النفس الإنسانية دون عاصم لها ؟ ...... لا

لأنه أرسل الرسل تحمل المنهج السماوي ملخصه (( افعل )) و (( لا تفعل )) . وهكذا يمكن أن يصير المنهج قيماً على خواطر النفس .

لكن مادام الله قد أراد أن يكون المنهج قَيِّماًَّ على خواطر النفس ، فلماذا أوجد النفس ؟

لقد أجد الله النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق . إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة ، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج من مهمتها .

ويقول قائل : مادام الله قد خلق غريزة الجنس ... فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها ؟

ونقول له : اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع ، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج .

وكذلك أوجد الله غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره .

وكذلك أوجد الله غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس ، ولكن هي لاستكشاف أسرار واستنباط الجديد فيما ينفع الناس .

إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة ، فإن خرجت عن مهمتها ، فالشرع يتحكم ويقول : لا ........ إن هناك إطار يمكن أن تستخدم فيه الغرائز ، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز ، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر .

وقال في المثل العربي (( آفة الرأي الهوى )) فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم و الأخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم . ولذلك نجد الله سبحانه قد عصم رسوله فقال : { لا ينطق عن الهوى } .

والسطحيون هم الذين يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون : ما دام الله يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى ؟

ونقول :

أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن الرسول ، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم أراده الله ، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي ، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وسلم كان يصل إلى حكم ٍ ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له ، فينطق رسول الله بالتعديل كما أنزله الله . ولم يخالف صلى الله عليه وسلم ربه في أي أمر . وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها الله حكم ، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشري من رسول الله ، ولم يكن في ذلك أي هوى .

وحين قال الحق : { ما ينطق عن الهوى } . إنما يبلغنا أنه لم يكن عند رسول الله حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى ، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه ، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم .

ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف ، فيقول سبحانه : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ } التَّوْبَة

وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء ، ولكن هو عفو وسمح ، لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشري في الأمور التي لم تكن فيها حكم الله ، وهو قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيٌّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } التَّحْرِيم

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرم أموراً على نفسه ، ولم يحرمها على الناس ، وهنا يوضح الله سبحانه : لا تحرم على نفسك ما أحللت لك .

إذن هذا أمر لمصلحة الرسول .

وعندما جاء زيد بن حارثة ليخير بين أن يكون مع رسول الله كعبد له ، وأن يكون مع اهله ، أثر زيدَّ رسول الله . فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن جعله في مقام الابن ، وكان التبني معروفاًَ عند العرب ، ونادى الناس زيداً بزيد بن محمد ، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } .

وكلمة (( أقسط )) تعني أعدل ، ومعناها أن القسط أيضاً في دائرة العدل . وعندما يقال : فلان له القسط ، أي له العدل .

إذن : فالقسط أولاً لرسول الله ، والأكثر قسطاً هو حكم الله ، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر ولكن الله يريد لك الأقسط .

إذن فقول الله سبحانه : { وما ينطق عن الهوى } . هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام ،

فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام : إن الله يصوب لمحمد ، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى ؟ .

نقول : وهل تعرف معنى الهوى يا جاهل ؟ إن الحكم بالهوى يعني أنه وجد حكماً لله فيعدل الحكم لهواه ، كما هو الحال بالكتاب المقدس ... ولكن هذا لم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر ، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه . وهذا هي منتهى الأمانة في البلاغ من الله .

اللهم صلى وسلم وبارك على سيد الخلق حبيبك وحبيب خير أمة أخرجت للناس حضرة رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

قال تعالى :
الأَحْزَاب آية رقم : 56قرآن كريم "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

فصلوا على الحبيب المصطفى

اللهم تقبل منا صالح الأعمال
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته