عمر و القضاء

د. عمر عبدالكافي

في رسالة عمر بن الخطاب الشهيرة إلي أبي موسي الأشعري وضع عمر فيها دستوراً للقاضي المسلم في نظام القضاء والتقاضي .

لنقرأ نصها سوياً لنري عظمة الإسلام كما سوف نري عبقرية فذة و آفاق معرفية عند أحد التلاميذ النجباء لرسول الله (صلى الله عليه وسلم ) .



بسم الله الرحمن الرحيم

من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلي عبد الله بن قيس أبي موسي الأشعري سلام عليك أما بعد :

فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أُوليَ إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.

آس بين الناس في وجهك (أي اعدل) ، وعدلك و مجلسك حتي لا يطمع شريف في حيفك (أي ظلمك) و لا ييأس ضعيف من عدلك ..

البينة علي من ادعي و اليمين علي من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .

لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك ، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلي الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل .

الفهم الفهم فيما تلجلج فيه صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ، ثم اعرف الأشباه والأمثال ، فقس الأمور عند ذلك ، واعمد إلي أقربها إلي الله و أشبهها بالحق و اجعل لمن ادعي حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه ، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت عليه القضية فإنه أنقي للشك و أجلي للعمي .

فإن المسلمين عدول (هو المثل و النظير) بعضهم علي بعض ، إلا مجلوداً في حد أو مُجرّباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً في ولاء أو نسب فإن الله تولى منكم السرائر و درأ (دفع) بالبينات و الإيمان .

و إياك و الغلق (أي ضيق الصدر و قلة الصبر) و الضجر و التأذي للخصوم والتنكر عند الخصومات فإن القضاء في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر ، فمن صحت نيته و أقبل علي نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس و من تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله ..

فما ظنك بثواب الله عز و جل في عاجل رزقه و خزائن رحمته و السلام .

إن عندي من اليقين أنه لو لم يكن من مناقب بن الخطاب (رضي الله عنه ) إلا هذه لكفته وعُد عندئذ من كبار المنظرين و المفكرين و المشرعين .

و لقد كتب هذا العبقري الفذ إلي أبي عبيدة بن الجراح رسالة راقية عجيبة هامة قال فيها :

(( أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسي خيراً ،

إلزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظّيك :

إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة ...

ادن الضعيف حتي تبسط لسانه و يجترئ قلبه و تعهد الغريب فإن الطالب إذا حبس ترك حاجته و انصرف إلي أهله و إنما ضيع حقه من لم يعرف به ، وآس بينهم في لحظك و طرفك و عليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فيه فصل القضاء )).

و كأن عمر بهذا وضع صفات القاضي من علمه بالأحكام الشرعية و الفتوي ثم الفطنة و الذكاء و الشدة في غير عنف و الرقة في غير ضعف و قوة الشخصية و أن يكون القاضي ذا مال و حسب .

و يجب علي القاضي أن يخلص لله عمله ، وأن يفهم القضية فهماً دقيقاً و أن يستشير فيما أشكل عليه من أمور ، وأن يساوي بين المتخاصمين ، وأن يشجع الضعيف ، وأن يوسع صدره ، وأن يتجنب كل ما يؤثر علي القاضي كالرشوة وغيرها ، ثم الحرص علي الصلح بين المتخاصمين و أن يعود دائماً إلي الحق ثم تقرير المتهم برىء حتي تثبت إدانته و أنه لا اجتهاد مع النص .

هكذا كانوا فسعد العالم بهم و سعدوا هم دنيا و أخرى. فهلا اقتفينا أثرهم .